للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصفراء من نبع أبي ظهيرة ... ترن كإرنان الشجي وتهتف١

وهي صورة نفسية معبرة برغم إيجازها وتركيز ألوانها.

ولعل أطرف هذه الصور النفسية في شعر الصعاليك تلك الصورة التي يرسمها عروة لموقف صعاليكه منه بعد أن تعهدهم حتى "أخصبوا وتمولوا" فإذا هم يلتوون عليه ويتنكرون له. وهو يستخدم في رسم هذه الصورة لونا من ألوان الحياة النفسية التي تعرفها الحياة الإنسانية في مختلف عصورها:

تلك الأم التي تعهدت وليدها الصغير متحملة في سبيله كل تعب وجهد، حتى إذا تم شبابه، وراحت تنتظره خير، وترتجى نفعه، تزوج فغلبت الزوجة الأم على ابنها، وأخذته منها تاركا أمه العجوز مكبة على حد مرفقيها تشكو وتولول مما نزل بها، وهي حائرة ماذا تفعل، ولكنها لا تملك في النهاية إلا أن ترجع صابرة متجملة. يقول عروة مخاطبا صعاليكه:

فإني وإياكم كذي الأم أرهنت ... له ماء عينيها تفدي وتحمل

فلما ترجت نفعه وشبابه ... فباتت لحد المرفقين كليهما

أتت دونها أخرى جديد تكحل ... توحوح مما نابها وتولول

تخير من أمرين ليسا بغبطة ... هو الشكل، إلا أنها قد تجمل٢

والصورة هنا صورة نفسية متكاملة الخطوط والألوان، دقيقة التلوين والتظليل إلى حد كبير، ألح الشاعر فيها على المشبه به فجاءت تشبيها تمثيليا رائعا -على حد الاصطلاح البلاغي. وقد يكون طبيعيا أن تتراءى هذه الصورة من الحياة الإنسانية لعروة، وهو الإنسان الذي وهب حياته للعمل من أجل تلك العناصر الضعيفة في مجتمعه، وجعل من نفسه أبا للصعاليك.

ويستخدم الشعراء الصعاليك بعض المظاهر الجسدية في رسم صورها التشبيهية. فالمأزق الحرج الذي تسد أمام المرء جميع منافذه حتى لا يعرف له مخرجا منه يشبه تأبط شرا بسد المنخرين. يقول في رثاء الشنفرى:


١ ديوانه المطبوع/ ٣٨.
٢ ديوانه/ ١١٧، ١١٨.

<<  <   >  >>