للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والغاية التي يريد أن يصل إليها -بطبيعة الحال- الغنى، ولكنه لا يريد الغنى من حيث هو غاية يقف عندها، وإنما يريده ليكون وسيلته للارتفاع بمنزلته الاجتماعية بين أفراد مجتمعه، من حيث إنه يهيئ له الفرصة التي يشارك فيها السادة الأغنياء في البذل والكرم واكتساب المحامد والمفاخر:

دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق محمل

أليس عظيما أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول

فإن نحن لم نملك دفاعا بحادث ... تلم به الأيام فالموت أجمل١

والفقير في رأيه شر الناس، وأحقرهم عندهم، وأهونهم عليهم مهما يكن له من فضل، يجافيه أهله، وتزدريه امرأته، حتى الصغير يستطيع أن يذله، أما الغني فمهما يفعل يقبل منه، ومهما يخطئ يغفر له، فللغني رب يغفر الذنوب جميعا:

ذريني للغنى أسعى، فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير

وأدنأهم، وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير

يباعده القريب، وتزدريه ... حليلته، ويفهره الصغير

ويُلقى ذو الغنى، وله جلال ... يكاد فؤاد لاقيه يطير

قليل ذنبه، والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور٢

هكذا يسجل أبو الصعاليك فلسفته في هذه المشكلة الاجتماعية الخطرة، مشكلة الفقر والغنى، في هذا الأسلوب الممتاز الذي يستمد امتيازه من عنصرين أساسيين هما السخرية والبساطة: السخرية من ذلك المجتمع العجيب الذي يحتقر الفقير لا لشيء إلا لأنه فقير، ويقدر الغني لا لشيء إلا لأنه غني، والذي لا يهتم بغير المظاهر المادية، أما جوهر النفس الكامن خلف هذه المظاهر فأمر وراء اهتمامه، ثم البساطة التي نلمسها في عرض الشاعر لمعانيه ذلك العرض


١ ديوانه/ ٢٠٦.
٢ ديوانه/ ١٩٨، ١٩٩. وابن قتيبة: عيون الأخبار ١/ ٢٤١، ٢٤٢. وابن عبد ربه: العقد الفريد ٣/ ٢٩.

<<  <   >  >>