عاملا لمجتمعه، متوافقا معه، دائرا في فلكه، ورأى المجتمع في هؤلاء الصعاليك "شذاذا" خارجين عليه، غير متوافقين معه، فتنكر لهم، وتخلى عنهم، وتركهم يواجهون الحياة دون أية حماية منه أو ضمان اجتماعي، ورأوا هم في مجتمعهم مجتمعا مختلا، يسيطر عليه ظلم اجتماعي، وتسوده أنانية اقتصادية جائرة، وتنقصه عدالة اجتماعية تسوي بين جميع أفراده، وتكافؤ في فرص العيش يهيئ لكل فرد فيه أن يأخذ بنصيبه من الحياة كما يأخذ سائر الأفراد.
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا كله أن فر هؤلاء الصعاليك من مجتمعهم النظامي ليقيموا لأنفسهم بأنفسهم "مجتمعا" فوضويا، شريعته "القوة"، ووسيلته "الغزو والإغارة"، وهدفه "السلب والنهب"، ووجدوا في الصحراء الفسيحة الواسعة التي لا تقيدها قيود، ولا تحد من حريتها حدود، ولا يستطيع قانون أن يخترق نطاقها ليفرض سلطانه عليها، مجالا لا حدود له يمارسون فيه نشاطهم الإرهابي، ويقيمون "دولتهم" الفوضوية، "دولة الصعاليك"، حيث يحيون حياة حرة متمردة، تسودها العدالة الاجتماعية، وتتكافأ فيها فرص العيش أمام الجميع.
وأخبار هؤلاء الصعاليك وأشعارهم تحفل بأحاديث هذا التشرد في أنحاء الصحراء الموحشة، ووديانها الرهيبة، حيث يحيا الوحش بعيدا عن البشر، وحيث يكمن الموت في كل رجء من أرجائها.
ولعل أقوى ما صُور به هذا التشرد في شعر الصعاليك هاتان الصورتان المتشابهتان اللتان نجد إحداهما عند تأبط شرا، والأخرى في لامية العرب، فكلا الصعلوكين مفارق مجتمعه النظامي حيث يعيش البشر، إلى أعماق الصحراء البعيدة حيث يعيش الوحش، أما تأبط شرا فقد ألفته الوحش لطول ما عاش بينها مسالما لها، حتى أنست به، واطمأنت إليه، وأما صعلوك اللامية فقد وجد في ضواري الصحراء أهلا له، يستعيض بها عن أهله من البشر، ويجد بينها الأمن والطمأنينة. يقول تأبط شرا متحدثا عن نفسه:
يبيت بمغني الوحش حتى ألفنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا