للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحياة الجديدة، وشاركت في ضروب نشاطها، وسلكت سبل العيش معها في هدوء واستقرار، وطائفة أخرى لم تزل في نفوسها بقية من تمرد، رفضت هذا الفناء الجديد في شخصية القبيلة التي أجارتها، فكانت حياتها فيها امتدادا لحياتها القديمة في القبيلة التي خلعتها.

ويخرج هؤلاء "الشذاذ"١ على حياتهم الجديدة، ليجدوا في الصحراء متسعا لنشاطهم المتمرد الذي لا يحتمله مجال القبيلة الضيق، وليشقوا طريقهم في الحياة بأسلوبهم الذي اعتادوا عليه، دون أن يعتمدوا على أحد سوى قوتهم، وأغراهم على هذا أنهم كانوا واثقين من أنهم "إذا أخفقوا فلن يعدموا أن يجدوا سيدا أو حيا يستقبلهم ويضمن لهم ملجأ"٢. ويبدو أن هؤلاء الشذاذ المتمردين كانوا ينظرون إلى القبائل التي يستجيرون بها على أنها "نقط ارتكاز" لنشاطهم، وإلى حياتهم فيها على أنها فترات راحة في حياتهم العنيفة.

وحين نعود إلى أخبار صعاليك العرب لننظر فيها على ضوء هذا "المصباح الاجتماعي" نجد أن طائفة كبيرة منهم من الخلعاء والشذاذ.

فقد كان قيس بن الحدادية "صعلوكا خليعا"٣ خلعته قبيلته خزاعة لأنه اشترك مع جماعة من أسرته في قتل أحد أفراد قبيلتهم، وعجزوا عن دفع الدية، ففروا هاربين، "فنزلوا في فراس بن غنم، ثم لم يلبثوا أن أصابوا أيضا منهم رجلا، فهربوا، فنزلوا في بجيلة على أسد بن كرز فآواهم، وأحسن إلى قيس، وتحمل عنهم ما أصابوا في خزاعة وفي فراس"٤ وفي خبر آخر أنه بعد خلعه "نزل عند بطن من خزاعة يقال لهم بنو عدي عمرو بن خالد،


١ في لسان العرب "مادة شذ": "وقوم شذاذ إذا لم يكونوا في منازلهم ولا حيهم ... وشذاذ الناس الذين يكونون في القوم ليسوا في قبائلهم ولا منازلهم".
وفي أساس البلاغة "المادة نفسها" "شذ عن الجماعة شذوذا انفرد عنهم، وهو من شذاذ القوم: من الذين هم فيهم وليسوا منهم".
٢ LAMMENS; LE BERCEAU DE I'ISLAM, VOL. I, P. ١٩٤.
٣ الأغاني ١٣/ ٢ "بولاق".
٤ المصدر السابق/ ٤، ٥.

<<  <   >  >>