للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويبدو أن سوء حظه مع جيرانه قد فارقه بعد ذلك، فقد نزل على الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بمكة، فطال مقامه لديه، ولكنه كان كثير الشوق إلى أهله، شديد الحنين إليهم، فاستأذن الزبير في الرجوع إليهم، "وشكا إليه شوقا لهم فلم يأذن له، وسأله المقام، فأقام عنده مدة"، ثم عاوده الحنين مرة أخرى، فأتاه وأنشده أبياتا يصور فيها هذا الحنين الجارف، فلما أنشده إياها أذن له فانصرف١.

ولكن يظهر أن تمرد أبي الطمحان لم يفارقه بعد ذلك، فقد جنى جناية وهرب من بلاده، "ولجأ إلى بني فزارة، فنزل على رجل منهم يقال له مالك بن سعد أحد بني شمخ، فآواه وأجاره، وضرب عليه بيتا، وخلطه بنفسه، فأقام مدة، ثم تشوق يوما إلى أهله وقد شرب شرابا ثمل منه، فقال لمالك: لولا أن يدي تقصر عن دية جنايتي لعدت إلى أهلي، فقال له: هذه إبلي فخذ منها دية جنايتك، وازدد ما شئت، فلما أصبح ندم على ما قاله، وكره مفارقة موضعه، ولم يأمن على نفسه"، فأتى مالكا وأنشد أبياتا يمدحه فيها مدحا قويا، هو من غير شك صادر من أعماق نفسه، يصور تقديره لذلك السيد النبيل، ويصرح له فيها بأنه قرر البقاء في جواره، فقد أصبح كأنه واحد منهم:

وقد عرفت كلابكم ثيابي ... كأني منكم ونسيت أهلي

"فقال مالك: مرحبا فإنك حبيب ازداد حبا، إنما اشتقت إلى أهلك، وذكرت أنه يحبسك عنهم ما تطالب به من عقل أو دية، فبذلت لك ما بذلت وهو لك على كل حال، فأقم في الرحب والسعة، فلم يزل مقيما عندهم حتى هلك في دارهم"٢ بعد أن امتدت به الحياة حتى بلغ أرذل العمر٣.


١ الأغاني ١١/ ١٣٤ "بولاق"، والشعر والشعراء/ ٢٢٩.
٢ الأغاني ١١/ ١٣٢ "بولاق".
٣ يذكر أبو حاتم السجستاني أنه عاش مائتي سنة "كتات المعمرين/ ٦٢".

<<  <   >  >>