النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ جَرِيرٌ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَسَكَنَهَا زَمَانًا ثُمَّ انْتَقَلْتُ إِلَى قَرْقِسْيَا، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (قَالَ عُرِضْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ نَفْسِي كَعَرْضِ الْجَيْشِ عَلَى الْأَمِيرِ لِيَعْرِفَهُمْ، وَيَتَأَمَّلَهُمْ حَتَّى يَرُدَّ مَنْ لَا يُرْضِيهُ ثُمَّ صَرَّحَ، وَقَالَ: أَوْ هُوَ لِلْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ عَرَضَنِي عَلَيْهِ، وَلَّاهُ ذَلِكَ لِيَنْظُرَ فِي قُوَّتِي، وَجَلَادَتِي عَلَى الْقِتَالِ قُلْتُ، وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ (بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) ، وَسَبَبُ الْعَرْضِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ حَتَّى ضَرَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَرَهُ، وَدَعَا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ جَرِيرًا غَابَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَحَضَرَ فَأَمَرَ بِعَرْضِهِ لِيَتَبَيَّنَ حَالَهُ، وَمَا وَقَعَ لَهُ فِي رُكُوبِ الْخَيْلِ كَذَا قَرَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَرْضَ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَشْيِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ مُصَرَّحًا، وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ تَثْبِيتُهُ عَلَى الْخَيْلِ بِدُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يُلَائِمُهُ الِامْتِحَانُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (فَأَلْقَى جَرِيرٌ رِدَاءَهُ) الضَّمِيرُ لِجَرِيرٍ.
(وَمَشَى فِي إِزَارٍ) .
كَانَ الْقِيَاسُ ; فَأَلْقَيْتُ رِدَائِي، وَمَشَيْتُ ; فَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ قَيْسٍ كَمَّلَ بِهِ كَلَامَ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ بِالْمَعْنَى، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ ; فَيَأْبَاهُ الْفَاءُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ جَرِيرٌ إِظْهَارًا لِقُوَّتِهِ، وَتَجَلُّدِهِ فِي شَجَاعَتِهِ (فَقَالَ) عَطْفٌ عَلَى عُرِضْتُ أَيْ ; فَقَالَ عُمَرُ (لَهُ) أَيْ: لِجَرِيرٍ (خُذْ رِدَاءَكَ) أَيْ، وَاتْرُكْ مَشْيَكَ ; فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَمْرُكَ. (فَقَالَ عُمَرُ) «أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ» (لِلْقَوْمِ) . أَيْ لِلْحَاضِرِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ.
(وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا) . أَيْ: مَا عَلِمْتُ صُورَةَ رَجُلٍ لِيَنْدَفِعَ الْمُسَامَحَةُ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُسْتَثْنَى أَيْضًا (أَحْسَنَ) أَيْ مَا عَدَاهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَالْمُسْتَثْنَى عَقْلًا.
(مِنْ صُورَةِ جَرِيرٍ) .
أَيْ مِنْ وَجْهِهِ أَوْ بَدَنِهِ ; فَلَا يُشْكَلُ بِحُسْنِ دِحْيَةَ قِيلَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (أَحْسَنَ)
صُورَةً مِنْ جَرِيرٍ.
(إِلَّا مَا بَلَغَنَا مِنْ صُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) .
اعْلَمْ أَنَّ رَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ ; فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ عَلَى مَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى عَلِمْتُ ; فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ أَنْسَبُ لِتَعْرِيفِ حُسْنِ جَرِيرٍ.
وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَيُعْلَمُ مِنْ ذِكْرِ صُورَةِ الْمُفَضَّلِ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رَجُلٍ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ صُورَتُهُ ; فَزَعَمَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ صُورَةَ رَجُلٍ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَغَرَابَتُهُ لَا تَخْفَى ; لِأَنَّ ذِكْرَ صُورَةِ الْمُفَضَّلِ هُوَ الْمُوجِبُ لِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ الْمُصَحِّحِ لِلْحَمْلِ هَذَا.
وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ جَرِيرَ يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: مَوْلَى آلِ عُمَرَ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ شِقَّةُ قَمَرٍ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ جَمَالَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، وَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ صَفَائِهِ، وَكَثْرَةِ ضِيَائِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ صُورَتَهُ كَانَ يَقَعُ نُورُهَا عَلَى الْجِدَارِ بِحَيْثُ يَصِيرُ كَالْمِرْآةِ يَحْكِي مَا قَابَلَهُ مِنْ مُرُورِ الْمَارِّ لَكِنَّ اللَّهَ سَتَرَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْجَمَالِ الزَّاهِرِ، وَالْكَمَالِ الْبَاهِرِ إِذْ لَوْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ لَصَعُبَ النَّظَرُ إِلَيْهِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَقِيلَ شَطْرُ حُسْنِ أَهْلِ زَمَانِهِ أَوْ شَطْرُ حُسْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّ حُسْنَ السِّيرَةِ أَفْضَلُ مِنْ حُسْنِ الصُّورَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» .
وَقَالَ مِيرَكُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ مُلْحَقَاتِ