للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُسْتَهَانُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الدَّهَشِ، وَالتَّحَيُّرِ وَالْغُرُورِ لِمَا نَالَهُ مِنَ السُّرُورِ بِكَثْرَةِ الْحُورِ، وَالْقُصُورِ مِمَّا كَانَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ، وَلَمْ يَتَصَوَّرْ فِي آمَالِهِ مِنْ حُسْنِ مَا لَهُ ; فَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ ضَابِطًا لِأَقْوَالِهِ، وَلَا عَالِمًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ جَرَيَانِ حَالِهِ بَلْ جَرَى لِسَانُهُ بِمُقْتَضَى عَادَتِهِ فِي مُخَاطَبَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمُحَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ. نَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَمَّنْ قَالَ مِمَّنْ لَمْ يَضْبِطْ نَفْسَهُ حَالَةَ غَايَةِ الْفَرَحِ فِي الدُّعَاءِ حَيْثُ صَدَرَ مِنْهُ سَبَقَاللِّسَانُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ مَكَانَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ، وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْمَقَالِ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ ; فَيُقَالُ (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) جَمْعُ النَّاجِذِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَسْنَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ هِيَ الْأَضْرَاسُ كُلُّهَا، وَقِيلَ بَلْ هِيَ الَّتِي تَلِي الْأَنْيَابَ، وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ كَانَ جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمَ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِإِبْدَاءِ أَقْصَى الْأَسْنَانِ فَالْوَجْهُ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّحِكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوصَفَ بِإِبْدَاءِ نَوَاجِذِهِ حَقِيقَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّوَاجِذَ بِمَعْنَى أَقْصَى السِّنَانِ لُغَةً لَكِنَّهُ رَفَضَ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ هُنَا، وَعَدَلَ إِلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ ضَحِكَ فُلَانٌ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَصْدُهُمْ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّحِكِ إِذْ لَيْسَ فِي إِبْدَاءِ مَا وَرَاءَ النَّابِ مُبَالَغَةٌ ; فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِأَوَّلِ مَرَاتِبِ الضَّحِكِ.

وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا غَايَةٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةٌ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، وَالْبَدِيعِ الَّتِي هِيَ زُبْدَةُ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ عُمْدَةُ كَلَامِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالرِّوَايَاتِ النُّورَانِيَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا كَمَالُ الْإِعْجَازِ، وَظُهُورُ الْإِطْنَابِ، وَالْإِيجَازِ، وَبَيَانُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَبُلُوغُ مَبْلَغِ الْبَلَاغَةِ، وَحُصُولُ مُفْصِحِ الْفَصَاحَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ.

وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: وَكَمْ تَرَى مِمَّنْ ضَاقَ عَطَنُهُ، وَجَفَا عَنِ الْعِلْمِ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَنْتَحِيهَا الْعَرَبُ لَا تُسَاعِدُ اللُّغَةَ ; فَيَهْدِمُ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ الْأَوْضَاعُ، وَيَخْتَرِعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ

وَضْعًا مُسْتَحْدَثًا لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ الْمَوْثُوقُ بِعَرَبِيَّتِهِمْ، وَلَا الْعُلَمَاءُ الْأَثْبَاتُ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنْهُمْ، وَاحْتَاطُوا، وَتَأَنَّقُوا فِي تَلَقِّيهَا، وَتَدَاوِينِهَا ; فَيَضِلُّ، وَيُضِلُّ وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ; فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَجْرِي مِنْهُ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ.

قُلْتُ لَوْ حُمِلَ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى مَا تَدَاوَلَتْهُ الْعَرَبُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْيَدِ، وَالْعَيْنِ، وَالِاسْتِوَاءِ، وَغَيْرِهَا لِوُقُوعِ جَمِيعِ النَّاسِ فِي فَسَادِ الِاعْتِقَادِ مِنَ التَّجْسِيمِ، وَالتَّشْبِيهِ، وَإِثْبَاتِ الْجِهَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ رَبُّ الْعِبَادِ.

فَالْمَخْلَصُ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا التَّفْوِيضُ، وَالتَّسْلِيمُ كَمَا هُوَ طَرِيقُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، أَوِ التَّأْوِيلُ اللَّائِقُ بِالْمَقَامِ دَفْعًا لِتَوَهُّمٍ فَوَهْمُ الْعَوَامِّ كَمَا سَبِيلُ غَالِبِ الْخَلَفِ، وَالثَّانِي أَضْبَطُ وَأَحْكَمُ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَأَسْلَمُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا) أَيْ: حَضَرْتُهُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) حَالَ كَوْنِهِ (أَتَى) أَيْ: جِيءَ (بِدَابَّةٍ) وَهِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ثُمَّ خَصَّهَا الْعُرْفُ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ (لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ) أَيْ: أَرَادَ وَضْعَهَا (فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ) قِيلَ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ نُوحٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّ عَلِيًّا نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَأَسَّى بِهِ فِي ذَلِكَ ; فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يُقَالُ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ إِلَخْ.

قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَبْنِيَّ عَلَيْهِ فِعْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ وَلَا بِدْعَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ كَمَا أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَذْكَارِ الْآتِيَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>