وَذَكَرَ هَذَا هُنَا دُونَ مَا مَرَّ ; لِأَنَّ مَا رَوَاهُ هُنَا يُعَارِضُهُ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ الْغُرَّةَ وَالِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَأَيَّامَ الْبِيضِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَنَّهُ أَتَى بِتَنْصِيصِ أَيَّامِهِ، وَعَيَّنَهَا لِصَوْمِهِ، وَرُبَّمَا طَعَنَ طَاعِنٌ فِي يَزِيدَ بِهَذَا فَرَدَّهُ بِتَوْثِيقِهِ مَعَ الْإِرْشَادِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ لَا يُبَالِي بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ يَتْرُكُ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ، وَيَصُومُ غَيْرَهَا مِنْ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ فَلَمْ يَكُنْ يُلَازِمُ أَيَّامًا بِعَيْنِهَا لَا يَنْفَكَّ عَنْهَا نَظِيرُ مَا مَرَّ قَرِيبًا فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ بِالنِّسْبَةِ لِقِيَامِهِ، وَمَنَامِهِ (وَهُوَ يَزِيدُ الْقَاسِمُ) أَيِ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُ عِلْمَ الْقِسْمَةِ أَوْ كَانَ يُبَاشِرُهَا مِنْ جِهَةِ السَّلْطَنَةِ (وَيُقَالُ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (الْقَسَّامُ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ مُبَالَغَةُ الْقَاسِمِ (وَالرِّشْكُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ هُوَ الْقَسَّامُ) قَالَ مِيرَكُ: اخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَلْقِيبِ يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ بِالرِّشْكِ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ الرِّشْكَ الْقَسَّامُ بِلُغَةِ الْبَصْرَةِ يَعْنِي بِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مَاهِرًا فِي
فِي قِسْمَةِ الْأَرَاضِي وَحِرَفِهَا، وَقِيلَ الرِّشْكُ: اللِّحْيَةُ الْكَثِيفَةُ لُقِّبَ بِهِ لِكَثْرَةِ لِحْيَتِهِ، وَكَثَافَتِهَا، وَقِيلَ الرِّشْكُ الْعَقْرَبُ وَلُقِّبَ بِهِ ; لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ عَقْرَبًا دَخَلَ لِحْيَتَهُ وَمَكَثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَدْرِي بِهِ لِكَثَافَةِ لِحْيَتِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لُقِّبَ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ غَيُورًا فَكَانَ عَيْنَ الْغَيْرَةِ وَالرِّشْكِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قُلْتُ: الرَّشْكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَارِسِيٌّ بِمَعْنَى الْغَيْرَةِ، وَلَعَلَّهُ عُرِّبَ وَغُيِّرَ أَوَّلُهُ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ الصِّحَاحِ هَذِهِ الْمَادَّةَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الرِّشْكُ بِالْكَسْرِ: الْكَبِيرُ اللِّحْيَةِ، وَالَّذِي يَعُدُّ عَلَى الرُّمَاةِ فِي السَّبْقِ، وَأَصْلُهُ الْقَافُ، وَلَقَبُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ أَحْسَبِ أَهْلِ زَمَانِهِ.
(حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) وَكَذَا رَوَى عَنْهَا الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مَعَ بَعْضِ تَخَالُفٍ فِي الْمَبْنَى لَا يَحْصُلُ بِهِ تَغَيُّرٌ فِي الْمَعْنَى (قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ) بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ هُوَ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ فَاعُولَاءُ بِالْمَدِّ غَيْرُهُ، وَقَدْ أُلْحِقَ بِهِ تَاسُوعَاءُ فِي تَاسِعِ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ التَّاسِعُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِشْرِ بِالْكَسْرِ فِي أَوْرَادِ الْإِبِلِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَاشُورَاءُ مَعْدُولٌ عَنِ الْعَاشِرَةِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ ; لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْعِقْدِ، وَالْيَوْمُ مُضَافٌ إِلَيْهَا، فَإِذَا قِيلَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا بِهِ عَنِ الصِّفَةِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةِ فَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَوْصُوفِ فَخَفُّوا اللَّيْلَةَ فَسَاغَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَاشُورَاءُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الَّتِي لَمْ يُرْوَ لَهَا فِعْلٌ، وَالتَّقْدِيرُ يَوْمٌ مُدَّتُهُ عَاشُورَاءُ وَصِفَتُهُ عَاشُورَاءُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ (يَوْمًا يَصُومُهُ قُرَيْشٌ) وَهُمْ أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَقِيلَ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْرِفَةِ بِنَعْتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِذَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَيْضًا بِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَذْنَبَتْ قُرَيْشٌ ذَنْبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَظُمَ فِي صُدُورِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ صُومُوا عَاشُورَاءَ يُكَفَّرُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَعَلَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ فِي صَوْمِهِ إِلَى شَرْعِ مَنْ مَضَى كَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ فِصَامَهُ نُوحٌ شُكْرًا (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافَقَةً لَهُمْ كَمَا فِي الْحَجِّ أَوْ مُصَادَفَةً لَهُمْ بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا فِعْلُ خَيْرٍ أَوْ مُطَابَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ نَدْبًا أَوْ فَرْضًا (فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) أَيْ: فَصَارَ فَرْضًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَأَتْبَاعُهُ ; فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ اتِّفَاقًا.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute