للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ، فَلْيَصُمْ وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ إِلَى اللَّيْلِ.

وَهَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لِحُرْمَةِ الْيَوْمِ مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ إِنَّمَا تُنَاسِبُ الْوُجُوبَ، وَقَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ.

فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ

فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.

اسْتُشْكِلَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ.

وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ أَوْ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ ثُمَّ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْأَمْرِ بِصِيَامِهِ بَلْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَغَايَةُ مَا فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُودِ جَدِيدُ حُكْمٍ ; وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةُ حَالٍ وَجَوَابُ سُؤَالٍ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَهُ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ تَوَارُدِ الْفَرِيقَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ كَمَا اسْتَأْلَفَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ قِبْلَتِهِمْ، وَبِالسَّبْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِمْ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُحِبُّ فِيهِ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةَ، وَشُهِرَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ أَحَبَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ فَوَافَقَهُمْ أَوَّلًا، وَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ مِنْكُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا أَحَبَّ مُخَالَفَتَهُمْ قَالَ: فِي آخِرِ حَيَاتِهِ لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ نَقْلَ الْعَاشِرَ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَيُشْعِرُ بِهِ بَعْضُ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ، وَصُومُوا يَوْمًا بَعْدَهُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ أَدْنَاهَا أَنْ يُصَامَ وَحْدَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ مَعَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُعِلَ صَوْمُهُ فَرْضًا (كَانَ رَمَضَانُ هُوَ الْفَرِيضَةَ) يَعْنِي صَارَتِ الْفَرِيضَةُ مُنْحَصِرَةً فِي رَمَضَانَ ; فَإِنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ مَعَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ (وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نُسِخَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ بِصِيَامِهِ (فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ) أَيْ: نَدْبًا (وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ) ; فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَهُ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا شَكَّ أَنَّ قُدُومَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ، وَفُرِضَ رَمَضَانُ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعِ الْأَمْرُ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ إِلَّا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ فُوِّضَ الْأَمْرُ فِي صَوْمِهِ إِلَى رَأْيِ الْمُتَطَوِّعِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ فُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ صِيَامٌ قَبْلَ رَمَضَانَ أَوَّلًا فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الثَّانِي، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا فُرِضَ عَاشُورَاءُ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ نُسِخَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ.

وَقَالَ صَاحِبُ السِّيَرِ فُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلًا صَوْمُ عَاشُورَاءَ ثُمَّ نُسِخَ فَرِيضَتُهُ بِصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِفْطَارِ بِالْأَعْذَارِ ثُمَّ يُحَتَّمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>