وَجْهِ الْفُتُورِ وَالْمَلَالِ كَانَ مُعَامَلَةُ اللَّهِ فِيكُمْ مُعَامَلَةَ الْمَلُولِ عَنْكُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَمَلُّ اللَّهُ وَتَمَلُّونَ، فَحَتَّى بِمَعْنَى الْوَاوِ فَنَفَى عَنْهُ الْمَلَلَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ وُجُودَهُ وَتَحَقُّقَهُ، وَتَوْضِيحَهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى هَاهُنَا لَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا بَلْ مَعْنَاهُ
لَا يَمَلُّ اللَّهُ أَبَدًا، وَإِنْ مَلِلْتُمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيغِ لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى لَا تَنْقَطِعَ خُصُومُهُ أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ انْقِطَاعِ خُصُومِهِ بَلْ يَكُونُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ حِينَ يَنْقَطِعُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ، وَقِيلَ حَتَّى بِمَعْنَى حِينَ أَيْ: لَا يَمَلُّ إِذَا مَلِلْتُمْ ; لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَلَلِ، وَلَيْسَ كَمَا فَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَوَهِمَ بِقَوْلِهِ إِذْ لَوْ مَلَّ حِينَ مَلُّوا لَمْ يُمَكِّنْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ، وَفَضْلٌ ثُمَّ قَالَ: وَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ اللَّفْظَ أَصْلًا، وَالْمَزِيَّةُ وَالْفَضْلُ عَلَيْهِمْ وَاضِحَانِ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ لَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَفْظُهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا تُطِيقُونَ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.
(وَكَانَ أَحَبُّ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) رُوِيَ أَحَبُّ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَكَذَا بِالنُّسَخِ بِالْوَجْهَيْنِ لَكِنْ فِي الْأَصْلِ الْأَصِيلِ بِالنَّصْبِ فَقَطْ فَمَحَلُّ قَوْلِهِ (الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ) مَرْفُوعٌ أَوْ مَنْصُوبٌ، وَالْمَعْنَى مَا يُوَاظِبُ عَلَيْهِ مُوَاظَبَةً عُرْفِيَّةً، وَإِلَّا فَالْمُدَاوَمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ مَقْدِرَةٌ.
قَالَ شَارِحٌ: وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ، وَرَأْفَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمَّتِهِ ; لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُهُمُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّةٍ وَضَرَرٍ، وَتَكُونُ النَّفْسُ أَنْشَطَ وَالْقَلْبُ أَشْرَحَ فَتُثْمِرُ الْعِبَادَةُ بِخِلَافِ مَنْ تَعَاطَى مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَشُقُّ ; فَإِنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَتْرُكَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ يَفْعَلَهُ بِكُلْفَةٍ أَوْ بِغَيْرِ انْشِرَاحِ الْقَلْبِ، فَيَفُوتُهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اعْتَادَ عِبَادَةً ثُمَّ فَرَّطَ بِقَوْلِهِ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا.
(حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ شُكْرًا وَفِي نُسْخَةٍ الْفُضَيْلُ مُعَرَّفًا (عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ وَنَصْبِ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ سُئِلَتْ عَائِشَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ لِلْغَائِبَةِ وَرُفِعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى النِّيَابَةِ (أَيُّ الْعَمَلِ) أَيْ: أَيُّ أَنْوَاعِهِ (كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتَا مَا دِيمَ عَلَيْهِ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: مَا وُوظِبَ وَدُووِمَ عَلَيْهِ (وَإِنْ قَلَّ) أَيْ: وَلَوْ قَلَّ الْعَمَلُ ; فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يَنْقَطِعُ إِذْ بِدَوَامِ الْقَلِيلِ يَدُومُ الذِّكْرُ وَالطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمُرَاقَبَةُ، وَهَذِهِ ثَمَرَاتٌ تَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، قَالَ الْمُظْهِرُ: لِهَذَا الْحَدِيثِ يُنْكِرُ أَهْلُ التَّصَوُّفِ تَرْكَ الْأَوْرَادِ كَمَا يُنْكِرُونَ تَرْكَ الْفَرَائِضِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ بَحْثٌ ثُمَّ قِيلَ الْمُنَاسِبُ ذِكْرُ حَدِيثِ الْمَرْأَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَمَا قَبْلَهُ، وَمَا بَعْدَهُ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ إِذْ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِصَوْمٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوْمِ فِيهِ مُنَاسِبَةٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ كَثِيرًا يُدَاوِمُونَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ فِيهِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ مُوجَبِ الْمَلَالِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ (حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَاصِمَ بْنَ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً) أَيْ: لَيْلَةً عَظِيمَةً كَأَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (فَاسْتَاكَ) أَيِ: اسْتَعْمَلَ السِّوَاكَ (ثُمَّ تَوَضَّأَ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَاكُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْوُضُوءِ، وَقِيلَ يَسْتَاكُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمَضْمَضَةِ (
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute