للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْخُلُقِ تَحْصِيلُ الْفَضَائِلِ وَتَرْكُ الرَّذَائِلِ وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَغْضَبُ بِغَضَبِهِ وَيَرْضَى بِرِضَاهُ.

وَتَفْصِيلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَّصِفُ بِكُلِّ صِفَةٍ حَمِيدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِيهِ وَيَجْتَنِبُ عَنْ كُلِّ خَصْلَةٍ ذَمِيمَةٍ مَسْطُورَةٍ فِيهِ، كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي وَصْفِ الْقُرَّاءِ: أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى حُلَاهُمْ بِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ مُفَصَّلًا عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافَسًا وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلَى وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقِ الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالتَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِنْ جَانِبِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ الْإِخْلَاصِ الْمَقْرُونِ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كَمَالَ حُسْنِ الْخُلُقِ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى قَدْرِ سَعَةِ الْقَلْبِ وَشَرْحِ الصَّدْرِ وَمِنْ ثَمَّةَ وَرَدَ أَنَّ قَلْبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَعُ قَلْبٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى قَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ مُقَرَّبًا عِنْدَ اللَّهِ وَلَدَيْهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ حُسْنُ الْخُلُقِ غَرِيزِيَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ أَوْ مُكْتَسَبَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ فَقِيلَ بِالْأَوَّلِ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ أَرْزَاقَكُمْ.

، وَقِيلَ: بَعْضُهُ مُكْتَسَبٌ لِمَا صَحَّ فِي خَبَرِ الْأَشَجِّ (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَوْ حَدِيثًا، قَالَ: قَدِيمًا، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَتَرْدِيدُ السُّؤَالِ عَلَيْهِ وَتَقْرِيرُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ جِبِلِّيٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُكْتَسَبٌ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ جِبِلَّةٌ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ فَمَنْ غَلَبَهُ حُسْنُهُ فَهُوَ الْمَحْمُودُ وَإِلَّا أُمِرَ بِالْمُجَاهَدَةِ حَتَّى يَصِيرَ حَسَنًا وَبِالرِّيَاضَةِ حَتَّى يَزِيدَ حُسْنُهُ، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَخْلَاقَ كُلَّهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا جِبِلِّيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِالرِّيَاضَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِبَارَاتُ النَّبَوِيَّةُ وَالْإِشَارَاتُ الصُّوفِيَّةُ.

مِنْهَا حَدِيثُ (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ.

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ (مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) .

وَمِنْهَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ (وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ) .

وَمِنْهَا مَا صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي.

فَالْمُرَادُ: زِيَادَةُ تَحْسِينِ الْخُلُقِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ عَلَى طِبْقِ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا.

وَمِنْهَا حَدِيثُ (حُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ) رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ.

وَمِنْهَا (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا) .

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَنَّ الْكَمَالَ فِي الْخُلُقِ هُوَ حَسْنُ الْخُلُقِ، وَهُوَ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ الصَّمَدَانِيَّةِ مَا عَدَا اسْمَ الْجَلَالَةِ، فَإِنَّهُ لِلتَّعَلُّقِ لَا لِلتَّخَلُّقِ، قَالَ الْعَارِفُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) : رَمْزٌ غَامِضٌ وَإِيمَاءٌ خَفِيٌّ إِلَى الْأَخْلَاقِ الرَّبَّانِيَّةِ فَاحْتَشَمَتِ الْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ أَنْ تَقُولَ: كَانَ مُتَخَلِّقًا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَبَّرَتْ عَنْ هَذَا بِأَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ اسْتِحْيَاءً مِنْ سَبَحَاتِ الْجَلَالِ وَسَتْرًا لِلْجَمَالِ بِلَطِيفِ الْمَقَالِ لِوُفُورِ عَقْلِهَا وَكَمَالِ أَدَبِهَا وَفَضْلِهَا انْتَهَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَوْصَافَ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ لَا تَتَنَاهَى كَمَا أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ لَا تَتَقَاضَى، وَهَذَا غَايَةٌ فِي الِاتِّسَاعِ وَنِهَايَةٌ فِي الِابْتِدَاعِ لَا يُهْتَدَى لِانْتِهَائِهَا بَلْ كُلُّ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ انْتِهَاؤُهَا فَهُوَ مِنِ ابْتِدَائِهَا وَمِنْ ثَمَّةَ وَسِعَتْ أَخْلَاقُهُ أَخْلَاقَ أَفْرَادِ أَصْنَافِ بَنِي آدَمَ بَلْ أَنْوَاعَ أَجْنَاسِ مَخْلُوقَاتِ الْعَالَمِ، وَلِذَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَسَائِرِ الْأُمَمِ بَلْ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْجَمَادَاتِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي شَرْحِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (بُعِثْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً) .

(حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِقْرَاءِ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ (حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ دَخَلَ نَفَرٌ) يَقَعُ عَلَى الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى

مَا فِي الصِّحَاحِ (عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالُوا لَهُ: حَدِّثْنَا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَاذَا أُحَدِّثُكُمْ)

<<  <  ج: ص:  >  >>