هُوَ الْغَلِيظُ وَلَكِنَّهُ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ (وَلَا غَلِيظٍ) اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى فَظَاظَةِ اللِّسَانِ وَالْآخَرُ عَلَى فَظَاظَةِ الْقَلْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
أَيْ لَتَفَرَّقُوا مِنْ عِنْدِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُمَا فَانْدَفَعَ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ أَنَّ الْفَظَّ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ ذُكِرَ تَأْكِيدًا أَوْ مُبَالَغَةً فِي الْمَدْحِ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سَهْلِ الْخُلُقِ إِذْ هُوَ ضِدُّهُ؛ لِأَنَّهُ السَّيِّئُ الْخُلُقِ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي غَلِيظٍ إِذْ هُوَ الْجَافِي الطَّبْعِ الْقَاسِي الْقَلْبِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا أَرَادَ بِالْغَلِيظِ الضَّخْمَ الْكَبِيرَ الْخَلْقِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَمْرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ، أَوِ النَّفْيُ مَحْمُولٌ عَلَى طَبْعِهِ وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعَالَجَةِ قُلْتُ: وَفِيهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ كَانَتْ صِفَةُ الْجَمَالِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَاللِّينِ غَالِبَةً عَلَيْهِ حَتَّى احْتَاجَ بِمُعَالَجَةِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ (وَلَا صَخَّابٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ (وَلَا فَحَّاشٍ) سَبَقَ تَحْقِيقُهُ.
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَاحُشَ (وَلَا عَيَّابٍ) الرِّوَايَةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِنْ كَانَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْضًا مَسْلُوبًا عَنْهُ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تُوِهِّمَ مِنْ أَنَّ (غَيَّابٍ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مُبَالَغَةُ غَائِبٍ مِنْ غَابَ بِمَعْنَى اغْتَابَ وَلَا وَجْهَ لَهُ لُغَةً وَعُرْفًا، نَعَمِ الْمُبَالَغَةُ فِي الصِّيغَةِ بِالْمُهْمَلَةِ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى النَّفْيِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَا عَيْبٍ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِذِي تَعْيِيبٍ لِشَيْءٍ لَا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ عَيْبٍ فَهُوَ مُبَالَغَةُ عَائِبٍ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى ذِي عَيْبٍ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ فِي صَخَّابٍ نَعَمْ إِنْ أُرِيدَ بِالْعَيْبِ مَصْدَرُ عَابَهُ الْمُتَعَدِّي وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْفَاعِلِيَّ صَحَّ الْكَلَامُ وَتَمَّ النِّظَامُ لَكِنَّهُ مُوهِمٌ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ هَذَا، وَقَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُبَالِغًا فِي عَيْبِ أَحَدٍ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُبَالِغًا فِي مَدْحِ شَيْءٍ.
نَعَمْ رَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَابَ ذَوَّاقًا قَطُّ وَلَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ إِنِ اشْتَهَى أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ مَا مَدَحَ طَعَامًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَدْحَهُ وَعَيْبَهُ يُشْعِرَانِ إِلَى حَظِّ النَّفْسِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا فِي الْمُبَاحِ، وَأَمَّا الْحَرَامُ فَكَانَ يَعِيبُهُ وَيَذُمُّهُ وَأَخَذَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّ مِنْ آدَابِ الطَّعَامِ أَنْ لَا يُعَابَ كَمَالِحٍ حَامِضٍ قَلِيلِ الْمِلْحِ غَيْرِ نَاضِجٍ وَمِنَ التَّمْثِيلِ بِذَلِكَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَيْبِهِ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَمِنْ جِهَةِ الصَّنْعَةِ وَلِلْفَرْقِ وَجْهٌ، وَهُوَ كَسْرُ قَلْبِ الصَّانِعِ اللَّهُمَّ إِنْ قَصَدَ تَأْدِيبَهُ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّمَا يُكْرَهُ ذَمُّهُ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّ صَنْعَةَ اللَّهِ لَا تُعَابُ وَصَنْعَةَ الْآدَمِيِّينَ تُعَابُ (وَلَا مُشَاحٍّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ مِنَ الشُّحِّ، وَهُوَ الْبُخْلُ، وَقِيلَ أَشَدُّهُ، وَقِيلَ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ، وَقِيلَ الْبُخْلُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَالشُّحُّ عَامٌّ، وَقِيلَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ وَالشُّحُّ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبُخْلَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مَنْفِيٌّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْكَرَمِ وَالْجُودِ بِتَوْفِيقِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَيْ: لَا مُجَادِلَ وَلَا مُنَاقِشَ يُقَالُ تَشَاحَّ عَلَيَّ فُلَانٌ أَيْ: تَضَيَّقَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْغَرِيبِ، قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بَدَلَهُ وَلَا مَدَّاحٍ أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُبَالِغًا فِي مَدْحِ شَيْءٍ، وَفِي أُخْرَى وَلَا مَزَّاحٍ، وَالْمُرَادُ: نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ لِوُقُوعِ أَصْلِهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَانًا (يَتَغَافَلُ عَمَّا يَشْتَهِي) التَّغَافُلُ إِرَادَةُ الْغَفْلَةِ مَعَ عَدَمِ الْغَفْلَةِ أَيْ: يَتَكَلَّفُ الْغَفْلَةَ وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا لَا يَسْتَحْسِنُهُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ (وَلَا يُؤْيِسُ مِنْهُ) بِضَمِّ يَاءٍ وَسُكُونِ هَمْزٍ فَيَاءٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ: لَا يَجْعَلُ غَيْرَهُ آيِسًا مِمَّا لَا يَشْتَهِي،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute