فَقَالَ عُمَرُ) لَا شَكَّ أَنَّ الرَّاوِيَ هُوَ عُمَرُ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: فَقُلْتُ فَكَأَنَّهُ نَقَلَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَسْلَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَعْطَيْتَهُ) أَيِ: السَّائِلَ مَا عَلَيْكَ، وَهُوَ الْمَيْسُورُ مِنَ الْقَوْلِ (فَمَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ) أَيْ: مِنْ أَمْرِهِ بِالشِّرَاءِ وَوَعْدِهِ بِالْقَضَاءِ، وَالْفَاءُ لِتَعْلِيلِ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْعَطَاءِ، وَقِيلَ أَيْ: وَقَدْ أَعْطَيْتَهُ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ، وَلَا مِرْيَةَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ قَالَ كِلَا هَذَيْنِ بَعِيدٌ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَعْطَيْتَهُ سُؤَالَهُ وَجَعَلْتَ لَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِكَ فَلَا تَفْعَلْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْكَ بِذَلِكَ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَمِنْ طَرِيقَةِ الْمَعْنَى (فَكَرِهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ عُمَرَ) ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى كَمَالِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ ابْتَعْ عَلَيَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَيْسُورِ وَالْعَطَاءِ الْمَوْعُودِ، وَأَمَّا كَلَامُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْتِزَامُهُ قُنُوطَ السَّائِلِ وَحِرْمَانُهُ لَا لِمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَمُسَلَّمٌ مِنْ حَيْثِيَّةِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فِي الْجُمْلَةِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْمَيْسُورِ مِنَ الْقَوْلِ أَوْ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي اقْتِضَاءِ الْكَرَمِ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثِيَّةِ الْتِزَامِهِ قُنُوطَ السَّائِلِ وَحِرْمَانِهِ فَمَمْنُوعٌ وَعَنْ حَيِّزِ التَّصَوُّرِ مَدْفُوعٌ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ مِمَّا لَمْ يَنْفَعْ فَاحْذَرْهُ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيهَامِ مِمَّا لَا يُرْتَضَى (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ: مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفِقْ) أَيْ: بِلَالًا (وَلَا تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا) أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْفَقْرِ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَلَّ الشَّيْءُ يَقِلُّ وَأَقَلَّهُ غَيْرُهُ وَزَادَ فِي التَّاجِ أَنَّ مَعْنَاهُ الِافْتِقَارُ وَالِاحْتِيَاجُ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهُوَ
قَيْدٌ لِلْمَنْفِيِّ وَالنَّفْيِ تَأَمَّلْ، وَقِيلَ مَا أَحْسَنَ مَوْضِعَ ذِي الْعَرْشِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَيْ: لَا تَخْشَ أَنْ يُضَيِّعَ مِثْلَكَ مَنْ هُوَ مُدَبِّرُ الْأَمْرِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ كَلَامُ الطِّيبِيِّ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ لَكِنَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْشَى مِنَ الْفَقْرِ بَلْ مَا سَبَقَ صَرِيحٌ فِي كَمَالِ اعْتِمَادِهِ عَلَى رَبِّهِ، فَالْمَعْنَى اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْخَشْيَةِ، وَلَا تُبَالِ بِمَا ذَكَرَ عُمَرُ مِنَ النَّصِيحَةِ (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ) بِالْكَسْرِ أَيْ: ظَهَرَ عَلَى وَجْهِهِ الْبَشَاشَةُ وَعُرِفَ عَلَى بَشْرَتِهِ أَثَرُ الِانْبِسَاطِ، وَفِي نُسْخَةٍ وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَالْمُؤَدَّى وَاحِدٌ (لِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ عُرِفَ (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (بِهَذَا أُمِرْتُ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute