للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: يَفْتَحُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَحَامِدَ لَمْ يَفْتَحْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ قَبْلِهِ فَيَحْمَدُ رَبَّهُ بِهَا وَلِذَلِكَ يُعْقَدُ لَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَيُخَصُّ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ كَمَا اخْتُصَّ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمَدَ حَامِدٍ رَبَّهُ فَنَبَّأَهُ وَشَرَّفَهُ وَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ مُوسَى اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ وَقَوْلِ عِيسَى (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ؛ لِأَنَّ حَمْدَهُ لِرَبِّهِ كَانَ قَبْلَ حَمْدِ النَّاسِ لَهُ فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ مُحَمَّدًا ذُكِرَ بِالْفِعْلِ فَبِأَحْمَدَ ذُكِرَ قَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ بِمُحَمَّدٍ وَلِذَلِكَ فِي الشَّفَاعَةِ يَحْمَدُ رَبَّهُ أَوَّلًا بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ الَّتِي لَمْ يَفْتَحْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ فَيَكُونُ أَحْمَدَ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ، ثُمَّ يُشَفَّعُ فَيَشْفَعُ فَيُحْمَدُ عَلَى شَفَاعَتِهِ فَيَكُونُ أَحْمَدَ الْمَحْمُودِينَ فَتَقَدَّمَ أَحْمَدُ ذِكْرًا وَوُجُودًا وَدُنْيَا وَأُخْرَى انْتَهَى.

هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمَّادِ خِلَافًا لِمَا فَهِمَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فَإِنَّهُ مُبَالِغُ الْحَامِدِ فَأَيْنَ هُوَ مِنَ الْأَحْمَدِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعَالِ قَدْ تَأْتِي لِغَيْرِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا لَا يَخْفَى بَلْ مِنْ صِفَةِ أُمَّتِهِ الْحَمَّادُونَ عَلَى مَا وَرَدَ، وَلَعَلَّهُ قَدَّمَ مُحَمَّدًا فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ أَشْهَرَ مِنْ أَحْمَدَ وَأَظْهَرَ بَلْ وَرَدَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَ الْخَلْقِ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَوَرَدَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ اسْمَ مُحَمَّدٍ مَكْتُوبٌ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ، وَفِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَفِي قُصُورِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا وَعَلَى نُحُورِ الْحُورِ الْعِينِ وَعَلَى قَصَبِ آجَامِ الْجَنَّةِ وَوَرَقِ طُوبَى وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَعَلَى أَطْرَافِ الْحُجُبِ وَبَيْنَ أَعْيُنِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ مَزَايَاهُ مُوَافَقَتُهُ لِمَحْمُودٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى قَالَ حَسَّانُ

(وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ)

فَفِي الْجَنَّةِ لِلِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ مَزِيَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْبَغِي تَحَرِّي التَّسْمِيَةِ بِهَا فَفِي خَبَرِ أَبِي نُعَيْمٍ: قَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا عَذَّبْتُ أَحَدًا يُسَمَّى بِاسْمِكَ فِي النَّارِ.

وَوَرَدَ: إِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَلَا مُحَمَّدٌ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: مَا مِنْ مَائِدَةٍ وُضِعَتْ فَحَضَرَ عَلَيْهَا مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ إِلَّا قَدَّسَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَنْزِلَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ هَذَا.

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ صِيَانَةً لِهَذَا الِاسْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ زَمَانُهُ وَبَشَّرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقُرْبِهِ سَمَّى قَوْمٌ أَوْلَادَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ وَأَشْهَرُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ أَوْ سِتَّةٌ (وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ) إِمَّا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا وَعَدَ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ مُلْكُ أُمَّتِهِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: تَخْصِيصُ مَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ وَحَمْزَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ (يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ) انْتَهَى.

وَغَرَابَتُهُ لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى الْعَهْدِ لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي الْوُجُودِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ أَوْ أَنَّهُ يُمْحَى بِهِ لَكِنْ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ فِي زَمَنِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كُفْرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مَوْجُودٌ حِينَئِذٍ وَيُجَابُ بِأَنَّهُ وُجِدَ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الِاسْتِمْرَارِ فَأَمْرٌ آخَرُ بَلْ

فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْكَمَالِ تَعَقَّبَهُ الزَّوَالُ، وَلِذَا لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ.

قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ (وَأَنَا الْمَاحِي) فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحُو بِهِ سَيِّئَاتِ مَنْ تَبِعَهُ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي قُلْتُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَالَ يَمْحُو بِهِ لَا يَمْحُو بِي إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ قَدْ يَكُونُ مُتَعَدِّدًا، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: الْمَاحِي وَنَحْوُهُ صِفَةٌ لَا اسْمٌ قُلْتُ يُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى الصِّفَةِ كَثِيرًا انْتَهَى.

وَكَانَ الظَّاهِرُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَقُولَ الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ اعْتِبَارًا لِلْمَوْصُولِ إِلَّا أَنَّهُ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ لِلَفْظِ أَنَا كَقَوْلِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - (

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ.

وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي) حَيْثُ لَمْ يَقُلْ عَلَى قَدَمَيْهِ أَوْ عَلَى قَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ أَوِ الْإِفْرَادِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِكَسْرِ الْمِيمِ مُخَفَّفًا عَلَى الْإِفْرَادِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنَ الْمَاحِي وَالْحَاشِرِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِمَّا ذُكِرَ فِي صِفَتِهِمَا فَإِطْلَاقُهُمَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهُمَا، ثُمَّ قَوْلُهُ يُحْشَرُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْشَرُ قَبْلَ النَّاسِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ بَعْدِي أَوْ يَتْبَعُونِي، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ أَيْ: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى إِثْرِ زَمَانِ نُبُوَّتِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ.

فَالْمُرَادُ: بِالْقَدَمِ الزَّمَانُ أَيْ: وَقْتَ قِيَامِي بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْحَشْرِ وَيُرَجِّحُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ أَنَا حَاشِرٌ بُعِثْتُ مَعَ السَّاعَةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي الْمَوَاهِبِ: الْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَلَى قَدَمِي بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَبِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ قَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>