النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَى الرِّوَايَتَيْنِ يُحْشَرُونَ عَلَى أَثَرِي وَزَمَانِي وَرِسَالَتِي قُلْتُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ عَقِبِي بَدَلَ قَدَمِي عَلَى مَا نَقَلَهُ شَارِحٌ (وَأَنَا الْعَاقِبُ) وَهُوَ جَاءَ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الَّذِي يَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي الْخَيْرِ (وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ) قِيلَ هَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُدْرَجٌ وَقَعَ لَكِنَّهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْ: فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ (الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ) أَيِ: الْمُقْرِئُ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ عَاصِمٍ (عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ) وَاسْمُهُ شَقِيقُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ كَمَا قَالَهُ مِيرَكُ (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ لَقِيتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ) أَيْ: سِكَكِهَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُصَحَّحَةِ بِلَفْظِ طَرِيقٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ (فَقَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّ مَا بُعِثْتُ بِهِ سَبَبُ سَعَادَتِهِمْ وَمُوجِبٌ لِصَلَاحِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَقِيلَ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْكُفَّارِ أَمْنُهُمْ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِي
رِوَايَةٍ أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ (وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ) قَالَ الْإِمَامُ: مَعَانِي الثَّلَاثَةِ مُتَقَارِبَةٌ إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ وَأَمَرَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ وَنَصَّ عَلَيْهِمَا وَأَنَّ أُمَّتَهُ تَوَّابُونَ رُحَمَاءُ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ التَّائِبُونَ وَبِقَوْلِهِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي أُمَّتِهِ تَكُونَانِ مَوْجُودَتَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَيَكْفِي هَذَا الْقَدْرُ فِي الِاخْتِصَاصِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ أَوْ لِأَنَّهُ قَبِلَ مِنْ أُمَّتِهِ التَّوْبَةَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ، زَادَ مِيرَكُ بِخِلَافِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّوْبَةُ النَّصُوحُ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ فَتَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَأَرْكَانُ التَّوْبَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ النَّدَمُ وَالْقَلْعُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَلَا أَحَدَ جَعَلَ الِاسْتِغْفَارَ اللِّسَانِيَّ شَرْطًا لِلتَّوْبَةِ نَعَمْ لِلتَّوْبَةِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِبَعْضِ حُقُوقِ اللَّهِ شُرُوطٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَفَّفَهُ اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ قَاتِلِ الْمِائَةِ وَتَوْبَتِهِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ نَعَمْ شَدَّدَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَجَعَلَ مِنْ شَرَائِطِ تَوْبَتِهِمْ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ (وَأَنَا الْمُقَفِّي) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: الَّذِي قَفَّى آثَارَ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَتَبِعَ أَطْوَارَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَصْفِيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ وَمَكَارِمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute