أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ مَعَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْتِهِ فَوَضَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ يَدَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَالَتْ: تُوُفِّيَ رُفِعَ الْخَاتَمُ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ وَالْحِكْمَةُ فِي امْتِنَاعِهِمْ عَنْ إِظْهَارِ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظُهُورُ جَلَالَةِ الصِّدِّيقِ بِمَا أَظْهَرَ مِنَ الْجَلَادَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ وَالْقِيَامِ فِي الْقَضِيَّةِ بِوُسْعِ الطَّاقَةِ عِنْدَ تَحَيُّرِ أَكَابِرِ الْأُمَّةِ مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَظِيمِ الْغُمَّةِ (قَالُوا: يَا سَالِمُ، انْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَادْعُهُ) وَفِي الْعُدُولِ عَنِ اسْمِهِ بِوَصْفِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهَذَا الْمَعْنَى خُصُوصِيَّةً زَائِدَةً مُسْتَفَادَةً مِنْ مُدَاوَمَةِ مُلَازَمَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وَكَأَنَّهُ اسْتَمَرَّ نَفْيُ الْحُزْنِ عَنْهُ عِنْدَ كُلِّ مِحَنٍ وَتَقَوَّى قَلْبُهُ عِنْدَ ظُهُورِ كُلِّ فِتَنٍ (فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ مَحِلَّتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَهُوَ بِالْعَوَالِي، الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ ضُحًى (فَأَتَيْتُهُ أَبْكِي دَهِشًا) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ حَالَ كَوْنِي بَاكِيًا مَدْهُوشًا مُتَحَيِّرًا (فَلَمَّا رَآنِي، وَقَالَ لِي أَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ -) كَذَا بِالْوَاوِ قَبْلَ «قَالَ» عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالظَّاهِرُ تَرْكُهَا لِيَكُونَ «قَالَ» جَوَابَ «لَمَّا» ، لَكِنْ قَالَ مِيرَكُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَجَوَابُ لَمَّا قَوْلُهُ (قُلْتُ إِنَّ عُمَرَ يَقُولُ لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِضَ إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي هَذَا فَقَالَ لِي اِنْطَلِقْ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَرْسَلَ غُلَامَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَهُ الْغُلَامُ فَقَالَ الْغُلَامُ فَقَالَ سَمِعْتُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَاتَ مُحَمَّدٌ فَرَكِبَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَالَ وَامُحَمَّدَاهُ وَانْقِطَاعَ ظَهْرَاهُ وَبَكَى فِي الطَّرِيقِ حَتَّى أَتَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَجَاءَ هُوَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (وَالنَّاسُ قَدْ دَخَلُوا) وَفِي نُسْخَةٍ حَفُّوا بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ فَاءٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ: أَحْدَقُوا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ) وَفِي نُسْخَةٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ (أَفْرِجُوا إِلَيَّ) مِنَ الْإِفْرَاجِ أَيْ: أَعْطُوا الْفُرْجَةَ لِأَجْلِي (فَأَفْرَجُوا لَهُ) أَيِ: انْكَشَفُوا عَنْ طَرِيقِهِ (فَجَاءَ حَتَّى أَكَبَّ) أَيْ: أَقْبَلَ أَوْ سَقَطَ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَخَرَّ عَلَى سَاعِدِهِ وَمَسَّهُ) أَيْ: قَبَّلَهُ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ، وَهُوَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَوْضِعٌ بِعَوَالِي
الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ أَيْ: كَلَامًا عُرْفِيًّا فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ أَفْرِجُوا لِي.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: فَلَمْ يُكَلِّمْ مَنْ بِالْمَسْجِدِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَتَيَمَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: قَصَدَهُ بِوَضْعِ وَجْهِهِ عَلَيْهِ وَالتَّمَسُّحِ بِهِ تَبَرُّكًا إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسَجًّى بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ: مُغَطًّى بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ كَعِنَبَةٍ نَوْعٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، وَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مِتَّهَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَنَفْيُهُ الْمَوْتَتَيْنِ إِمَّا حَقِيقَةً رَدًّا عَلَى عُمَرَ فِي قَوْلِهِ مَا مَرَّ إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ يَمُوتُ مَوْتَةً أُخْرَى، وَهُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَهُمَا عَلَيْهِ كَمَا جَمَعَهُمَا عَلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَكَذَا عَلَى الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، قُلْتُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عُزَيْرًا وَاخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ لَكِنْ كَانَ لَهُ هَذَا الْأَمْرُ تَقْرِيرًا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَوْتَةً أُخْرَى فِي الْقَبْرِ كَغَيْرِهِ قُلْتُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِي قَبْرِهِ ثَانِيًا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِلْمَوْتَى عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى غَشَيَانٌ كَالْأُولَى وَأَوَّلُ مَنْ يُفِيقُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْهِ بَيْنَ مَوْتِ نَفْسِهِ وَمَوْتِ شَرِيعَتِهِ، وَقِيلَ الْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ الْكَرْبُ أَيْ: لَا تَلْقَى بَعْدَ كَرْبِ هَذَا الْمَوْتِ كَرْبًا آخَرَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ لَمَّا قَالَتْ: وَاكَرْبَاهْ لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ (فَقَالَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْمَقَالِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَالَ بِمَعْنَى قَرَأَ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) يَعْنِي قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْكَ فِي كِتَابِهِ أَنَّكَ سَتَمُوتُ وَأَنَّ أَعْدَاءَكَ أَيْضًا سَيَمُوتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَقَوْلُهُ حَقٌّ وَوَعْدُهُ صِدْقٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ إِنَّ الْجَائِيَ هُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُصَدِّقَ أَبُو بَكْرٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute