إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ.
وَأَخْرَجَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللَّهَ فِي سِرٍّ، وَلَا عَلَانِيَةٍ وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، لَقَدْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ مِنْ طَاقَةٍ وَلَا يَدٍ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللَّهِ.
فَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ: مَا أَغْضَبَنَا إِلَّا أَنْ أُخِّرْنَا عَنِ الْمَشُورَةِ وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا وَإِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَخَيْرَهُ وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَهُوَ حَيٌّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَضِيَهُ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا.
وَفِي هَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الدَّلَالَةِ كِفَايَةٌ لِأَرْبَابِ الْهِدَايَةِ دُونَ أَرْبَابِ الضَّلَالَةِ وَمَنْ يُضْلِلُ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ.
(حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) شَيْخٌ بَاهِلِيٌّ قَدِيمٌ بَصْرِيٌّ (حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَرْبِ الْمَوْتِ) أَيْ: حُزْنَهُ وَغَمَّهُ (مَا وَجَدَ) مَا مَوْصُولَةٌ وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ (قَالَتْ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَتْ (فَاطِمَةُ وَاكَرْبَاهْ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ فِي آخِرِهِ غَمٌّ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ) يَعْنِي أَنَّ الْكَرْبَ كَانَ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْأَلَمِ وَصُعُوبَةِ الْوَجَعِ وَبَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَرْبَ كَانَ بِسَبَبِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَبَعْدَ الْيَوْمِ تَنْقَطِعُ تِلْكَ الْعَوَائِقُ الْحِسِّيَّةُ لِلِانْتِقَالِ
حِينَئِذٍ إِلَى الْحَضْرَةِ الْقُدُسِيَّةِ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا رَأَتْ شِدَّةَ كَرْبِهِ قَالَتْ: وَاكَرْبَاهْ مُسْنِدَةً إِلَى نَفْسِهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُلَاءَمَةِ الْبَاطِنَةِ فَسَلَّاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْقَوْلِ وَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ كَرْبَ أَبِيهَا سَرِيعُ الزَّوَالِ مُنْتَقِلٌ إِلَى حُسْنِ الْحَالِ فَأَنْتِ أَيْضًا لَا تَكْرَبِي فَإِنَّ مِحَنَ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ وَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمِنَحِ الْبَاقِيَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ أَيْضًا إِلَى هُنَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْكَرْبِ أَنَّ كَرْبَهُ كَانَ شَفَقَةً عَلَى أُمَّتِهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَنْقَطِعَ شَفَقَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِمَوْتِهِ وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ وَأَعْمَالُهُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَرْبِ مَا يَجِدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شِدَّةِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّا يُصِيبُ جَسَدَهُ مِنَ الْآلَامِ كَالْبَشَرِ لِيَتَضَاعَفَ لَهُ الْأَجْرُ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ سَبَبِ الْكَرْبِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا.
(أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (قَدْ حَضَرَ) أَيْ: قَرُبَ مِنْ أَبِيكِ أَيْ: مِنْ أَمْرِهِ (مَا) أَيْ: أَمْرٌ عَظِيمٌ (لَيْسَ) أَيِ: اللَّهُ (بِتَارِكٍ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ (أَحَدًا) وَقَوْلُهُ (الْوَفَاةُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ الْمَمَاتُ ضِدُّ الْحَيَاةِ بَيَانٌ لِمَا، وَقَوْلُهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ كَلِمَةُ إِلَى وَجَوَّزَ أَنَّهُ يَكُونُ مَفْعُولًا فِيهِ وَيُرَادُ بِهِ يَوْمُ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّ يَوْمَ مَوْتِ كُلِّ أَحَدٍ يَوْمُ قِيَامَتِهِ كَمَا وَرَدَ (مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ) .
وَالْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَا فِي ذِهْنِ الزَّهْرَاءِ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ الْمُوَافَاةُ بَدَلَ الْوَفَاةِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ وَالْمُلَاقَاةِ، وَفِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُوَافَاةَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْوَفَاةِ، قِيلَ: وَقَدْ يُفَسَّرُ الْمُوَافَاةُ هُنَا بِالْوَفَاةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَحْسَنُ يُقَالُ: مِنْ أَبِيكِ أَيْ: مِنْ جِسْمِهِ مَا أَيْ: شَيْءٌ عَظِيمٌ لَيْسَ اللَّهُ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا وَذَلِكَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ هُوَ الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيِ: الْحُضُورُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْمَوْتِ.
وَقَالَ مِيرَكُ: مَا مَوْصُولَةٌ فَاعِلُ حَضَرَ، وَفِي لَيْسَ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَالْوَفَاةُ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ حَضَرَ وَبَيَانٌ لَهُ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ فَاعِلٌ بِتَارِكٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ اللَّهِ تَعَالَى وَضَمِيرُ مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ مَا،