للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ الْأَبْرَارُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الْأَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَصْحَابِ كَمَا فَهِمَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.

ثُمَّ الدَّلِيلُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى

(إِذْ يَقُولُ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِهِ أَيْ: لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فَسَمَّاهُ اللَّهُ صَاحِبَهُ وَلَمْ يُشَرَّفْ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ بِتَنْصِيصِهِ عَلَى الصُّحْبَةِ.

وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ قَالُوا: مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ الصِّدِّيقِ كَفَرَ لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا لِإِنْكَارِ الْآيَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ تَوَاتَرَتْ صُحْبَةُ بَعْضِهِمْ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خُصُوصِ تِلْكَ الصُّحْبَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَإِنَّهَا صُحْبَةٌ خَاصَّةٌ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ الْمُشَرَّفَةَ بِالْكِتَابِ صَارَتْ سَبَبًا لِصُحْبَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْعَرَصَاتِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَنَّاتِ وَالْوُصُولِ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فَبِهَذِهِ الصُّحْبَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَاقَ الصِّدِّيقُ سَائِرَ الْأَصْحَابِ كَمَا شَهِدَ بِهِ الْكِتَابُ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ عَدَلَ عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ إِلَى هَذَا الْوَصْفِ الْمَلِيحِ خِلَافًا لِمَنْ وَقَعَ بَاسْمِ زَيْدٍ مِنَ التَّصْرِيحِ عَلَى أَنَّهُ مُمْتَازٌ بِذِكْرِهِ فِي الْكَلَامِ الْقَدِيمِ وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ وَفَصْلٌ جَسِيمٌ.

ثُمَّ قَوْلُهُ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْحُزْنِ لَا عَلَى نَفْسِهِ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ سَبَقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَارِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنَ الْأَغْيَارِ أَوْ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الْحَشَرَاتِ مَعَ اهْتِمَامِهِ بِتَنْظِيفِ الْمَحَلِّ عَنِ الْأَوْسَاخِ وَالْقَاذُورَاتِ.

وَقَدْ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَ رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا انْتَهَى.

فَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ سَنِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فَوْقَهَا مَمْدَحَةٌ بَهِيَّةٌ مَعَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ مَعِيَّةٍ وَإِلَّا فَاللَّهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ كَمَا قَالَ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَفِي الْعُدُولِ عَنْ مَعِي إِلَى مَعَنَا دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الصِّدِّيقِ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَعِيَّةِ بِخِلَافِ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ وَقَدْ ذَكَرَتِ الصُّوفِيَّةُ هُنَا مِنَ النُّكْتَةِ الْعَلِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي مَقَامِ التَّفْرِقَةِ وَأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي حَالَةِ الْجَمْعِيَّةِ الْجَامِعَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِمَقَامِ جَمْعِ الْجَمْعِ فَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْجَمْعِيَّةِ مُخْتَصَّةٌ لِلصِّدِّيقِ دُونَ الْأَصْحَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (ثُمَّ بَسَطَ) أَيْ: مَدَّ عُمَرُ (يَدَهُ فَبَايَعَهُ) أَيْ: فَبَايَعَ أَبَا بَكْرٍ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ تَوَاضُعًا عَنْ طَلَبِ الْجَاهِ لَا تَبَرِّيًا ابْسُطْ يَدَكَ لِأُبَايِعَكَ قَالَ لَهُ عُمَرُ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ أَقْوَى مِنِّي ثَمَّ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ فَإِنَّ قُوَّتِي لَكَ مَعَ فَضْلِكَ أَيْ: قُوَّتِي تَابِعَةٌ لَكَ مَعَ زِيَادَةِ فَضْلِكَ إِيمَاءً بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْأَمِيرُ وَأَنَّ عُمَرَ هُوَ الْوَزِيرُ وَالْمُشِيرُ وَبِهِمَا يَتِمُّ نِظَامُ الْأَمْرِ (وَبَايَعَهُ النَّاسُ) أَيْ: جَمِيعُ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَوْ جُمْهُورُ النَّاسِ حِينَئِذٍ أَوْ جَمِيعُهُمْ بِاعْتِبَارِ آخِرِ الْأَمْرِ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ. (بَيْعَةً حَسَنَةً) لَا إِكْرَاهًا، وَلَا إِجْبَارًا، وَلَا تَرْغِيبًا، وَلَا تَرْهِيبًا (جَمِيلَةً) أَيْ: مَلِيحَةً قَالَ شَارِحٌ: جَمِيلَةً تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ حَسَنَةً، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ اللَّفْظِيَّ بِالْمُرَادَفَةِ لَمْ يُثْبِتْهُ النُّحَاةُ إِلَّا فِي

نَحْوِ ضَرَبْتَ أَنْتَ وَبِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَوْنُهُ نَعْتًا لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَرُوهُ فِيمَا إِذَا فُهِمَ مِنْ مَتْبُوعِهِ تَضَمُّنًا أَوِ الْتِزَامًا.

وَدُفِعَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْكِيدِ هُنَا تَقْوِيَةُ الْحُكْمِ لَا اللَّفْظُ وَتَقْوِيَتُهُ يَحْصُلُ بِالْمُرَادِفِ أَيْضًا.

وَبِأَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُهُ هُنَا نَعْتًا قُصِدَ بِهِ التَّأْكِيدُ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُفْهَمُ مِنَ الْحُسْنِ تَضَمُّنًا وَالْتِزَامًا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي الثَّانِي مَحَلُّ نَظَرٍ نَعَمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يُجْعَلَ حُسْنُهَا دَفْعَهَا لِلْفِتْنَةِ وَتَوَافُقَهَا بِحَدِيثِ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ.

وَجَمَالُهَا مِنْ حَيْثُ رِضَى نُفُوسِهِمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهَا وَشُهُودِهِمْ لِجَمَالِ الْحَقِّ فِيهَا إِذَا رِضَاهُمْ بِهَا فَالْأُولَى بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا وَالثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، هَذَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي السَّقِيفَةِ جَلَسَ مِنَ الْغَدِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلَّمَ قَبْلَهُ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي الصِّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرْجِعَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>