للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الِاسْتِدْلَالَ أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَقَعَتِ الْعِبَارَةُ الْجَلِيَّةُ إِلَى أَوْلَوِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ بِالْإِمَامَةِ وَسَبَبُهُ كَوْنُهُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَسْبَقِيَّةِ وَالْأَكْبَرِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ بِالْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا ظَهَرَتْ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا يَتَقَدَّمُ مِمَّا تَحَيَّرَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ وَكَشَفَ الْأَمْرُ عَنِ النِّقَابِ مَعَ الْإِشَارَةِ الْخَفِيَّةِ عَلَى أَحَقِّيَّتِهِ بِالْخِلَافَةِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّبَهُ لِهَذَا الْأَمْرِ مُدَّةً مَدِيدَةً مَعَ وُجُودِ حُضُورِ الْبَقِيَّةِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاءِ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ عِنْدَ مُعَارَضَةِ صَوَاحِبَاتِ يُوسُفَ بِاسْتِمْرَارِ إِمَامَتِهِ وَكَذَا إِبَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ تَقَدُّمِ عُمَرَ مَرَّةً لِغَيْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلِهِ لَا لَا لَا يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ خُرُوجُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدَاءُ صَلَاتِهِ خَلْفَ الصِّدِّيقِ تَأْكِيدًا لِلْقَضِيَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأَدِلَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَالتَّقْرِيرِيَّةِ أَيْضًا كَمَا خَرَجَ مَرَّةً وَطَالَعَ فِي صَلَاةِ الْقَوْمِ مُسْتَبْشِرًا، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ حَتَّى عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - رَضِيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ صُورَةُ التَّخَالُفِ فِي مُدَّةٍ مِنَ التَّخَلُّفِ لِبَعْضِهِمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ وُقُوعَ الْبَيْعَةِ فِي غَيْبَتِهِمْ كَانَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ فِي مَرْتَبَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَيْنِ خَافَا مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِدُوا بَيْعَةً بِالْعَجَلَةِ تَكُونُ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ مَعَ ظَنٍّ مِنْهُمَا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَكْرَهْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ ; لِعِلْمِهِمْ بِمَقَامِهِ فِي عُلُوِّ الْأَمْرِ (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الثَّلَاثِ؟) اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَلَى الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَظُنُّ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ، وَالْمَعْنَى هَلْ رَجُلٌ وَرَدَ فِي شَأْنِهِ مِثْلُ هَذِهِ الْفَضَائِلِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لَهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سَائِرِ مَحَاسِنِ الشَّمَائِلِ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ وَثَانِيهِمَا قَوْلُهُ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ وَثَالِثُهُمَا لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ قَالَ الْحَنَفِيُّ: إِحْدَاهَا ثَانِيَ اثْنَيْنِ وَثَانِيهَا

إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ وَثَالِثُهَا إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا انْتَهَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ (مَنْ هُمَا) أَيْ: مَنِ الِاثْنَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لَهُمَا وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّقْرِيرِ، وَقَدْ أَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى الْأَمِيرَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّحْقِيرِ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ قَالَ فَإِثْبَاتُ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ الْفَضَائِلَ الثَّلَاثَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَحَقِّيَّتِهِ بِالْخِلَافَةِ مِنْ غَيْرِهِ.

أَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَبِيَدِهِ أَزِمَّةُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ سَابِقِهَا وَلَاحِقِهَا أَدِلَّةً أُخَرَ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْيِيرِ أَوْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ إِلَّا الصِّدِّيقَ فَإِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاصِرًا بِلَا شُبْهَةٍ، وَلَا مِرْيَةٍ.

وَمِنْهَا أَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَضَمِّنٌ لِنُصْرَةِ الصِّدِّيقِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مَعَهُ فَهُوَ نَاصِرٌ وَمَنْصُورٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ السَّكِينَةِ وَنِهَايَةٍ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الصِّدِّيقُ فِي مَقَامِ الْحُزْنِ وَالِاضْطِرَابِ فَاخْتُصَّ بِهَذِهِ السَّكِينَةِ الرَّزِينَةِ مِنْ بَيْنِ الْأَصْحَابِ مَعَ مُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي السَّكِينَةِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَعَلَّ هَذَا مَنْشَأُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً وَلِأَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً، وَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ تَفْكِيكَ الضَّمِيرِ جَائِزٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَقَامِ الْأَمْنِ مِنَ اللَّبْسِ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ وَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ فِي سَكِينَتِهِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالسَّكِينَةُ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ سُكُونُ الْقَلْبِ فِيمَا يَبْدُو مِنْ حُكْمِ الرَّبِّ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ أَخْرَجَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْبَقَاءِ فَهُوَ وَصْفٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ أَحَدَ اثْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا وَاحِدٌ يَصْدُقُ عَلَى الصِّدِّيقِ أَيْضًا أَنَّهُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ أَيِ: الْمَعْهُودُ بِمَكَّةَ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ أَيْ: فِي مَحَلِّ الْقُرْبِ وَكَهْفِ الْأَنْوَارِ، وَقَدْ مَكَثَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي ذَلِكَ الْغَارِ وَلَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ فَانْظُرْ إِلَى خُصُوصِيَّتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذِهِ الْأَسْرَارِ مِنْ مُرَافَقَتِهِ فِي الْغَارِ وَمُرَافَقَتِهِ فِي الْأَسْفَارِ وَمُلَازَمَتِهِ فِي مَوَاضِعِ الْقَرَارِ حَيًّا وَمَيِّتًا وَخُرُوجًا مِنَ الْقَبْرِ وَدُخُولًا فِي الْجَنَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى جَمِيعِ الْأَبْرَارِ.

وَفِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنَ الْإِشَارَةِ الْخَفِيَّةِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ هِجْرَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِهِجْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ هِجْرَةِ غَيْرِهِ مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا فَهُوَ الْقَائِمُ مَعَ الْقَلْبِ بِحُكْمِ الرَّبِّ.

وَمِنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>