لَا حُجَّةَ فِيهِ لَاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ مُسَنَّمًا انْتَهَى، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى مُخَالَفَةِ فِعْلِ الصَّحَابَةِ نَعَمْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ بِأَنْ كَانَ مُسَنَّمًا أَوَّلًا، ثُمَّ صَارَ مُسَطَّحًا لَهُ وَجْهٌ بِحَسَبِ طُولِ الزَّمَانِ وَتَغَيُّرِ الْمَكَانِ، وَأَمَّا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّهْ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُشِفَ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ بَلْ مَبْطُوحَةٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ.
فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّسْطِيحِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرْتَفِعَةً جِدًّا، وَلَا مُرْتَخِيَةً بَلْ بَيْنَهُمَا لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ الِارْتِفَاعُ قَدْرَ شِبْرٍ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمَبْطُوحَةِ أَنَّهَا مَفْرُوشَةٌ مَكْبُوبٌ عَلَيْهَا بِالْبَطْحَاءِ فَإِنَّ لَهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ التَّسْطِيحِ وَعَلَى عَدَمِ التَّسْنِيمِ هَذَا، وَقَدْ زَادَ الْحَاكِمُ عَنْهُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمًا وَأَبُو بَكْرٍ رَأْسُهُ بَيْنَ كَتِفَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ فِي صِفَاتِ الْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ لَكِنَّ حَدِيثَ الْقَاسِمِ أَصَحُّ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَمَا مَرَّ عَنِ الْقَاضِي مَرْدُودٌ بَلْ قُدَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ عَلَى أَنَّ التَّسْطِيحَ أَفْضَلُ لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرٍ فَسُوِّيَ، ثُمَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا قُلْتُ لَا يَرُدُّ قَوْلَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ هُوَ الْمَاضِي، وَكَأَنَّهُ مَا عَدَّ خِلَافَ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ مُعْتَبَرًا مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ فِي التَّسْطِيحِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِعَدَمِ إِفَادَةِ الْمَقْصُودِ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِ فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى صُورَةَ قَبْرٍ غَيْرَ مُتَسَاوِيَةٍ بِسَبَبِ تَفَرُّقِ أَحْجَارِهِ وَانْتِشَارِ تُرَابِهِ وَآثَارِهِ فَأَصْلَحَهُ، فَالْمُرَادُ: بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَيْضًا إِصْلَاحُ الْقُبُورِ وَإِبْقَاؤُهَا إِذْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا غَيَّرَ صُورَةَ الْقَبْرِ الْمُسَنَّمِ وَجَعَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسَطَّحِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ) أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (يَتَشَاوَرُونَ) أَيْ: فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ أَوِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْقَضِيَّةُ وَاقِعَةٌ قَبْلَ الدَّفْنِ كَذَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ صَاحِبُ الرِّيَاضِ النَّضِرَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ مِنْ وَاجِبَاتِ الْأَحْكَامِ بَلْ جَعَلُوهُ أَهَمَّ الْوَاجِبَاتِ حَيْثُ اشْتَغَلُوا بِهِ عَنْ دَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتِلَافُهُمْ فِي التَّعْيِينِ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ وَكَذَا مُخَالَفَةُ الْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ فِي الْوُجُوبِ مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ كَسَائِرِ الْمُبْتَدِعَةِ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ وَلِتِلْكَ الْأَهَمِّيَّةِ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ أَبُو بَكْرٍ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَلَا بُدَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ فَانْظُرُوا وَهَاتُوا رَأْيَكُمْ فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ وَرَضِيَ بِهِ الْبَاقُونَ (انْطَلِقْ بِنَا) وَالْخِطَابُ لِأَبِي بَكْرٍ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ (إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْأَنْصَارِ نُدْخِلْهُمْ) بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: نَحْنُ نُدْخِلُهُمْ (مَعَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ) أَيْ: أَمْرِ نَصْبِ الْخِلَافَةِ لَا فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ عُمَرُ حَيْثُ صَرَّحَ بِالْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ لَهُمْ مَعَنَا أَنْ يُحْدِثُوا بَعْدَنَا بَيْعَةً فَإِمَّا أَنْ نُبَايِعَهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى أَوْ نُخَالِفَهُمْ فَيَكُونَ فَسَادًا (فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ وَالتَّقْدِيرُ فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِمْ وَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ قَالَتِ الْأَنْصَارُ (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) وَلَعَلَّ الشَّيْخَيْنِ مَا طَلَبُوا الْأَنْصَارُ إِلَى مَجْلِسِهِمَا خَوْفًا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ
الْإِتْيَانِ إِلَيْهِمَا أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ لَهُمْ بَيْعَةٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ عِنْدَهُمَا فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِمْ بِحَدِيثِ الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرَدَ مِنْ طُرُقِ نَحْوِ أَرْبَعِينَ صَحَابِيًّا.
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدٍ بِلَفْظِ الْخِلَافَةِ لِقُرَيْشٍ، وَكَأَنَّهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَغْنَى عَنْ رَدِّهِمْ عَنْ مَقَالَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ أَنُّ تَعَدُّدَ الْأَمِيرِ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ وَالتَّنَاقُضَ فِي الْحُكْمِ لَا سِيَّمَا بِاعْتِبَارِ مَا عَدَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَلَا يَتِمُّ نِظَامُ الْأَمْرِ فِي أُمُورِ الْأَمْصَارِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْأَنْصَارِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى قَوَاعِدِ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ حَيْثُ كَانَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ شَيْخٌ يَرْأَسُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ فِي أُمُورِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ وَبِهَذَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ مُسْتَمِرَّةً فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَعَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَأَبِي يَعْلَى وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا قَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَأَتَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ؟ فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ؟ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَا شَكَّ أَنْ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute