للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلم يرد أن يعطيها أبو بكر شيئاً فقال له رجل من الأنصار: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث فجعل أبو بكر السدس بينهما. (١)

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى استشارة عمر رضي الله عنه في امرأة استقت راعياً فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت، وكان رأي عمر رضي الله عنه إقامة الحد عليها فاستشار في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يدرأ عنها الحد لأنها كالمستكرهة. (٢)

كما أن عمر رضي الله عنه قد استشار الصحابة في جلد قدامة بن مظعون لما شرب الخمر وتأول الآية (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٣) , وإنما استشارهم لكونه كان مريضاً فأشاروا عليه بالتأجيل حتى يشفى ليحتمل الضرب ثم تركه ثم استشارهم فأشاروا عليه بالتأخير ثم عزم على جلده بسوط وقال: إنه والله أن يلقى الله تحت السياط أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي. (٤)

ويستفاد من هذه الشواهد التي سقناها أنه يجب على القضاة وولاة الأمر أن يحرصوا على إكثار العلماء في مجالسهم لما في ذلك من إمكان استحضار بعضهم الدليل الذي يقطع الخلاف، فالقضاة مهما كانت ثقافتهم قد يغيب عنهم الدليل على المسألة من الكتاب أو السنة أو النصوص القانونية، ولأن النصوص الشرعية والقانونية قد تعطي أكثر من مدلول، ولهذا فإن الإمام الجليل عبدالحق بن عطيه المالكي اعتبرها من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، وأن من تركها من الولاة فقد وجب عزله.

قال ابن عطية (والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا ما لا خلاف فيه.

ووجوب الشورى هو مذهب الجصاص من أئمة المذهب الحنفي -كما سيأتي تفصيله قريباً-.

وقد رجح الدكتور قحطان الدوري أن الشورى تكون واجبة في مواضع ومندوبة في مواضع, فالمواضع الواجبة فيها هي الأمور ذات الطابع العام والتي لها من الأهمية والخطورة الشيء الكثير كإعلان الحرب وسن القوانين, والأمور التي يندب للإمام الاستشارة فيها هي الأمور الخاصة والتي يرى أن مصلحة الأمة البت فيها بسرعة (٥).

وقد استشار عمر رضي الله عنه في قسمة الأراضي -أي أرض الخراج التي فتحت عنوة- ومن المعلوم أن الأرض إذا فتحت عنوة أنها تقسم أخماساً فخمس لبيت المال يصرف في وجوهه المعروفة, وأربعة أخماس توزع بين الغانمين لوجود نص في ذلك وهو قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٦) غير أن عمر رضي الله عنه فهم من سورة الحشر من آية الفيء وما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (٧) أن لكل هؤلاء نصيباً, فلو قسمت الأراضي على الغانمين لم يكن لهم نصيب وقد رأى عامة الصحابة أن يقسمها وكان أشدهم في ذلك


(١) - أخرجه مالك في الموطأ - باب ميراث الجدة ج ٢ - ص ٥١٣ - الطبعة الأولى.
(٢) - انظر السنن الكبرى للبيهقي ج ٨ - ص ٢٣٦.
(٣) - الآية ٩٣ من سورة المائدة.
(٤) - انظر أخبار عمر لابن الجوزي ص ٦٠. مصدر سابق.
(٥) - انظر الشورى بين النظرية والتطبيق للدكتور عبدالرحمن الدوري - بغداد - مطبعة الأمة - الطبعة الأولى ١٣٩٤هـ - ١٩٧٤م - ص ٥٥.
(٦) - الآية ٤١ من سورة الأنفال.
(٧) - الآيات ٧ - ١٠ من سورة الحشر.

<<  <   >  >>