للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

البحث, ثم أول ما يجري فيه التشاور صلاح الحكم أو عدم صلاحه وهذا أساس في مواجهة الأعداء فإن الحكم الفاسد غير قادر على الصمود في الحرب, ثم بحث الزمان وجو المعركة وجو الطقس وتقلباته, ثم صلاح ميادين المعركة أي طبيعة الأرض وميادين القتال, ثم اختيار القائد المناسب الجدير بالقيادة بسبب كفاءته (١).

وقد نقل القرآن الكريم بعض نماذج عن أخذ الرأي, من ذلك قصة ملكة سبأ عندما وصلها كتاب من سليمان عليه السلام وما حكى الله عنها حينما ألقى الهدهد كتاب سليمان إليها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ*) (٢) , وكتاب سليمان عليه السلام واضح الدلالة في الدعوة إلى عبادة الله والإذعان للحق سبحانه وتعالى بالوحدانية والربوبية وإلى الطاعة والإسلام, وأن بلقيس دعت الملأ من قومها, وهم أشراف الناس من قومها ووجوه القوم وأهل الرأي, ذكر ذلك ابن جرير وغيره من أئمة التفسير (٣) , وهذه القصة تفيد وجود التشاور بين الحاكم والمحكومين في العصور القديمة فقد أبانت الآية أن ملكة سبأ كانت هي وقومها وثنيون يعبدون الشمس, ولكنها مع ذلك بادرت إلى الاستشارة ولم تستفرد بالرأي دونهم, دل على ذلك ما حكاه الله عنها حيث تقول: (مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) ونقل القرطبي عن قتادة قوله: ذُكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهم أهل مشاورتها كل رجل منهم على عشرة آلاف (٤). كما نقل القرآن مشاورة ملك مصر في شأن رؤيا رآها فقال: (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (٥) , وقد طلب الملك الرأي من الملأ في تفسير هذه الرؤيا لكونها متعلقة بمصير الأمة.

وهناك نموذج آخر حكاه القرآن الكريم عن فرعون حينما جاءه موسى يدعوه إلى توحيد الله (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) (٦) والآية واضحة الدلالة في طلب الرأي من قبل الملأ غير أن ما يلاحظ عليه هو أن فرعون كان لديه نزعة استبدادية إذ أنه أبدى لهم رأيه في شأن موسى وأنه ساحر وأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره فكأنه حرضهم عليه, ومع ذلك فقد كان في جواب قوم فرعون ما يدل على استجابتهم لطلب المشورة وأخذ فرعون بها دل على ذلك ما حكاه الله تعالى في كتابه (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) (٧) والنص واضح الدلالة أن حث الناس على الاجتماع واتباع السحرة كان مشروطاً بفوزهم على موسى عليه السلام بخلاف الملأ من قوم بلقيس فإنهم (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (٨). ولعل فرعون مع نزعته الاستبدادية أراد مشاركتهم الجادة في الوصول إلى ما يريده ليشاركوه في نتيجة ما تسفر عنه المناظرة التي ربما كان يخشى سلفاً انها قد لا تكون في صالحه تماماً, وكأن من طبيعة الجبابرة والمستبدين إملاء آرائهم والتحريض على الأخذ بها أو الاستعانة بالرأي على الأخذ بما ينزعون إليه، فطبيعة فرعون هي الاستعلاء والتجبر كما حكى الله عنه في أكثر من آية ففي سورة القصص حكى الله عنه إدعاء الألوهية بعد أن دعاه موسى إلى أن يتزكى ويدع إدعاء الألوهية (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (٩) مع أن موسى عليه السلام دعاه إلى دين الحق وطالبه بأن يدين لإله يملك العالمين (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ


(١) - انظر الشورى للأستاذ الدكتور عبدالله أحمد قادري ص١٧ - ١٨طبعة دار المجتمع ١٤٠٦هـ، وفقه الشورى للدكتور علي سعيد الغامدي ص ٢٤ - ٢٥.
(٢) - سورة النمل: الآيات (٢٩ - ٣١).
(٣) - انظر جامع البيان للإمام ابن جرير الطبري ١٩ - ١٥٢.
(٤) - انظر الجامع لأحكام القرآن ج ١٣ - ص ٩٥.
(٥) - سورة يوسف: الآية ٤٣.
(٦) - سورة الشعراء ٢٩ - ٣٥.
(٧) - سورة الشعراء ٣٦ - ٤٠.
(٨) - سورة النمل ٣٣.
(٩) - سورة القصص ٣٨.

<<  <   >  >>