قلت: وهذا الاستنباط والاجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم قد جعله بعض العلماء ملزماً لاعتباره في الاجتهاد الجماعي، والاجتهاد الجماعي قد يكون صادراً من جميع المجتهدين فإذا كان كذلك انطبقت عليه شروط الإجماع ويكون ملزماً.
وقد يكون صادراً من أكثرية المجتهدين، فلا تتوفر له صفة الإجماع فيبقى في مثل هذه الحالة مجرد اجتهاد حتى تكون له صفة الإلزام وحتى تكون له هذه الصفة فلا بد من صدوره من سلطة تملك حق الإلزام، وهي في مثل هذه الحالة الدولة، ويكون من سداد الرأي وإصابته أن تكون الدولة ممثلة بمجلس تشريعي ليكون الأمر شورى بين أهله ولم يتفرد به واحد فتصدر الهيئة التشريعية به قانوناً، يصدر بها قرارٌ رئاسيٌ أو مرسومٌ ملكيٌ بحسب شكل نظام الحكم.
وقد امتدح الله المؤمنين الذين يكون أمرهم شورى بينهم في قوله تعالى:(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ومن ذلك أمر التشريع فيما لم يرد فيه نص أو فيما يحتاج إلى استنباط الحكم فيه كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم في المسائل التي سلف بيانها، وقد ذكر الإمام ابن القيم أن النازلة كانت إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نص عن الله أو عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جعلها شورى بينهم.
قلت وهذه سنة الخلفاء الراشدين في التشريع والقضاء, فقد ذكر شريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله، فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح. (١) وهذه الاستشارة هي في الواقع استشارة في التشريع والقضاء فيما لم يكن فيه نص أي في استنباط النص ثم القضاء به، وسيأتي مزيد بيان عند حديثنا عن الشورى في القضاء.