ونحن نجد في تحفظ التاريخ في هذه النقطة برهاناً على أن السيرة المتهمة أحياناً بالمبالغة- على العكس من ذلك- على جانب كامل من التحوط والحذر، عندما تنعدم لديها التفاصيل التاريخية.
ونحن مضطرون لنقص هذه التفاصيل لدينا أن نلجأ إلى المراجع والوثائق النفسية التي يقدمها القرآن، يدفعنا إلى ذلك اطراد ذات النبي، وتشابه تصرفاتها خلال مراحل حياته جميعاً، منذ مشهد زواجه الذي أتاح لنا أن نجمع بعض المعارف الموضوعية عن تلكم (الذات).
وكل ما في الأمر أن هذا الرجل الذي اختفى من مسرح التاريخ خلال خمسة عشر عاماً، سيظهر على هذا المسرح خلال ثلاثة وعشرين عاماً لكي يعيش ويفكر ويتكلم ويعمل في رابعة النهار، أكثر من أي وقت مضى.
والواقع أننا نعلم فيما يتصل بالمرحلة القرآنية كل التفاصيل، حتى التافه منها عن حياته الزوجية، بفضل هذه السيرة التي كانت صامتة منذ هنيهة، فمن الممكن أن تتجلى الخطوط الأساسية لعزلته، من مراجع حياته اللاحقة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه هو الذي أشار فيما بعد إلى طريقته في استخدام وقته، فهو يقول في حديث له:((وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات. ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفَكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمَّة لمعاش، أو لذة في غير محرم (١))).
فإذا نحن قررنا اطراد الذات المحمدية، فها هو ذا برنامج الحياة المرسوم الذي يجب أن يتبعه، ولا سيما في مرحلة عزلته.
(١) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم. وقال صحيح الإسناد عن أبى ذر الغفاري رضي الله عنه. (المترجم)