بالأسباب التي دعته إلى اتخاذ منهجه في تأليف هذا الكتاب ثم أفضيت إلى الغاية التي أرادها، بعد أن سلكت إليها طرقاً موحشة مخوفة. وقد قرأت الكتاب وصاحَبتُه، فكنت كما قرأت منه فصلا وجدت نفسي كالسائر في دروب قد طال عهدي بها، وخيل إليَّ أن مالكاً يؤلف هذا الكتاب إلا بعد أن سقط في مثل الفتن التي سقطتُ فيها من قبل، ثم أقال الله عثرته بالهداية فكان طريقه إلى المذهب الصحيح، هو ما ضمنه كتابه من بعض دلائل إثبات إعجاز القرآن، وأنه كتاب منزّل، أنزله الذي يعلم الخبء في المسلموات والأرض، وأن مبلغه إلى الناس، - صلى الله عليه وسلم -، رسول صادق قد بلغ عن ربه ما أمره بتبليغه، وأن بين هذا الرسول الصادق وبين الكلام الذي بلّغه حجازاً فاصلاً، وأن هذا الحجاز الفاصل بين القرآن وبين مبلغه حقيقة ظاهرة، لا يخطئها من درس سيرة رسول الله فاحصاً متأملاً، ثم درس كتاب الله بعقل يقظ غير غافل.
وهذا المنهج الذي سلكه مالك، منهج يستمد أصوله من تأمل طويل في طبيعة النفس الإنسانية، وفي غريزة التدين في فطرة البشر، وفي تاريخ المذاهب والعقائد التي توسم بالتناقض أحياناً، ولكنها تكشف عن مستور التدين في كل إنسان. ثم هو يستمد أصوله من الفحص الدائب في تاريخ النبوة وخصائصها، ثم في سيرة رسول الله، بأبي هو وأمي، منذ نشأته إلى أن لحق بالرفيق الأعلى. ثم في هذا البلاغ الذي جاء ليكون بنفسه، دليلاً على صدق نفسه، أنه كلام الله، الفارق لكلام البشر من جميع نواحيه.
وخلال هذا المنهج تستعلن لك المحنة التي عاناها مالك، كما عانيتها أنا، وكما عاناها جيل من المسلمين في هذا القرن. بل إنك لتجد المحنة ماثلة في (مدخل الدراسة) وهو الفصل الذي استفتح به كتابه، فقد صور لك مشكلة الشباب المسلم المتعلم في هذا العصر، وما كان قاساه وما يزال يقاسيه، من العنت في إدراك إعجاز القرآن، إدراكاً يرضاه ويطمئن إليه.