وكانت له خصائص ظاهرة، تجعل كل مقتدر بليغ مبين، وكل متذوق للبلاغة والبيان، لا يملك إلا الإقرار له، بأنه من غير جنس ما يعهده سمعه وذوقه، وأن مبلغه إلى الناس نبي مرسل، وأنه لا يطيق أن يختلقه أو يفتريه لأنه بشر لا يدخل في طوقه إلا ما يدخل مثله في طوق البشر، وأنه إن تقوَّل غير ما أمر بتبليغه وتلاوته، بان للبشر كذبه، وحقّ عليه قول منزله من المسلماء سبحانه:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[سورة الحاقة ٦٩/ ٤٤ - ٤٧].
ولسائل أن يسأل: فحدثني إذن، لم بقي شعر الجاهلية بهذه المنزلة لم يتجاوزها؟ وكيف غاب هذا الذي زعمت عن أئمة العلم من قبلك؟ وكيفط أخطأه علماء البلاغة، وهم الذين قصدوا بعلمهم قصد الإبانة عن إعجاز القرآن، وهم أقرب بالتنزيل عهداً منا ومنك؟. وما الذي صدَّ العقول البليغة عن سلوك هذا المنهج، وما نهضت إلا للمراماة دون إعجاز القرآن، في القديم والحديث؟. وحق علي أن أجيب، ولكن يقتضيني جواب هذه المسألة أن أقتص قصة أخرى، لا أستوعب القول في حكايتها تفصيلاً، بل أوجز المقال فيها إيجازاً مدفوعاً عنه الخلل ما أطقت، وعلى سامعها أن يدفع عن نفسه الغفلة ما أطاق؟.
فأهل الجاهلية هم من وصفت لك منزلتهم من البيان، وقدرتهم على تصريفه بألسنتهم، وتمكنهم من تذوقه بأدق حاسة في قلوبهم ونفوسهم، وعلمهم بأسراره، وتغلغلهم في إدراك الحجاز الفاصل بين ما هو من نحو بيان البشر، وما ليس من بيانهم؛ أهل الجاهلية هؤلاء، هم الذين جاءهم كتاب من المسلماء بلسانهم؛ هو في آيات الله بمنزلة عصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص في آيات أنبيائه، لتكون تلاوته على أسماعهم برهاناً قاهراً يلزمهم بالإقرار له بصحة تنزيله من المسلماء على قلب رجل منهم، وأن هذا الرجل نبي مرسل، عليهم أن يتبعوه وأن يستجيبوا لما