ظلمة الجاهلية، ودخلوا بألسنتهم وعقولهم ونفوسهم وقلوبهم في نور الإسلام.
ثم طار بهم هذا القرآن في كل وجه، يدعون الناس أسودهم وأحمرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويحملون إليهم هذا الكتاب المعجز بيانُه لبيان البشر، والذي نزل بلسانهم حجة على الخلق، وهدى يخرجهم من الظلمات إلى النور. فكان من أمرهم يومئذ ما وصفه ابن سلام في كتاب (طبقات فحول الشعراء) حين ذكر مقالة عمر بن الخطاب في أهل الجاهلية: ((كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه)). فقال ابن سلام تعليقاً على ذلك:((فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير)).
ولا يغررك ما قال (ابن سلام)، فتحسب أن أهل الجاهلية الذين هداهم الله للإسلام، طرحوا شعر جاهليتهم دبر آذانهم، فانصرفوا عنه صماً وبكماً، وخلعوه عن عقولهم وألسنتهم كما خلعوا جاهليتهم، فهذا باطل تكذبه أخبارهم، وينقضه منطق طبائع البشر وتاريخ حياتهم، بل كان أكبر ما لحقه من الضيم: أن نازعه القرآن فصرف همهم إليه، فكان نصيبه من إنشادهم وتقصيدهم القصائد أقل مما كان في جاهليتهم، ولكنه بقي مع ذلك هو الذي يؤوبون إليه إذا شق عليهم طول مدارسة القرآن، وهو الذي يستريحون إليه إذا فرغوا مما فرض عليهم ربهم، وسن لهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. وظل ذلك دأبهم في أول إسلامهم، ونشأ أبناؤهم يسمعون منهم شعر جاهليتهم ويستمعون إلى مكنون بيانهم في ألسنتهم، فيخرجون أيضاً مركوزاً ذلك البيان في طباعهم، وينتقل ذلك بما يشبه العدوى إلى مُسْلمَةِ الأعاجم وأبنائهم.