إلى جانب هذا القهر الذي رأيناه في الإطار النفسي للنبي، والذي يقهره على قضائه بصورة لا تقاوم، يجب أن نضم قهراً من نوع آخر، ذلك الذي يتجلى في أحكام (أرمياء) على أحداث عصره. والحق أن النبي قد حكم على هذه الأحداث على نحو يختلف تماماً عن أحكام معاصريه، وطريقته الفذة في النظر إلى الأشياء صدقتها الأحداث بشكل عجيب.
هل يجب أن تعزى هذه (النظرة العميقة) إلى مواهب شخصية، أي إلى مقدرة هائلة على الاستنتاج، وذوق نقدي نادر لمجرى التاريخ؟!
إن النقد الحديث يفسر لغز النبوة بهذه الطريقة، حين يخص الأنبياء بهبة معينة، تخول لهم الحكم العميق على التاريخ، ولكن يبدو أن هذا الرأي العقلي (المنكر للوحي) قد فاته أن ما ينقص (أرمياء) - مثلاً- بصفة موضوعية هو الأساس العقلي لأحكامه على أحداث التاريخ. وأكثر من ذلك، فإن الأنبياء باعتبارهم مصادر لنبوءاتهم لم يرجعوا إلى منطق الأحداث، بل لقد تجاوزوا هذا المنطق. ولهذا يظهرون أحياناً في نظر معاصريهم بمظهر عدم الاتساق في التفكير، فإن هؤلاء المعاصرين يبرهنون بطريقة أكثر اتفاقاً مع العقل ويجعلون لنظراتهم أساساً مستمداً من أحداث التاريخ.
ولنأخذ مثلاً: حالة الإسرئيليين أثناء أسرهم ببابل. لقد كانوا يأملون العودة القريبة إلى وطنهم. وهم ينظرون- في دهشة وأمل- ارتقاء حاميهم (إميل مردوخ Emel Mardoukh) على العرش، فقد كان ارتقاؤه غير متوقع!! أي شيء يمكن أن يكون مطابقاً للعقل أكثر من أمل كهذا؟. وكان ملك بابل في ذلك الوقت قد انتهج فعلاً (سياسة يهودية جديدة) يإطلاق سراح (جيكونياس Jeconias) ملك (جودا Juda) الأسير الذي أصبح الجليس المبجل لمعتقه. فالأمل إذن كان المنطق بعينه!!.