للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعل أعمال الحفريات المستقبلية تكشف لنا عن معالم أخرى لهذه المدينة التي هي من دون شك إحدى الصور التي تحكي قصة الحضارة العربية في بلاد الأندلس. وما وصلت إليه من الرقي والتقدم، في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في مجاهل التخلف، وقد بلغت الأندلس لا سيما العاصمة قرطبة درجة رفيعة من الحضارة كان تأثيرها واضحاً على جميع الدول المعاصرة، وإذا استثنينا من هذا المبحث شهرة الأندلس خلال هذه الفترة في العلوم والآداب (ينظر الفصل الخاص بتراث الأندلس العلمي) فيكفي أن نشير إلى تقدم العرب الأندلسيين في العلوم المختلفة النقلية والعقلية وعلوهم على غيرهم في مجالات علوم الفلك والرياضيات والكيمياء والطب على نحو تجاوز كل تقدير (٦٧).

وقد أشاد الباحثون المحدثون إشادة كبيرة بشخصية وعصر الخليفة عبد الرحمن الناصر وفي ذلك يقول العلامة الهولندي دوزي: " لقد كانت هذه نتائج باهرة، ولكنا نجد إذا ما درسنا ذلك العصر الزاهر، أن الصانع يثير الإعجاب والدهشة، بأكثر مما يثيرها المصنوع، تثيرها تلك العبقرية الشاملة التي لم يفلت شيء منها، والتي كانت تدعو إلى الإعجاب في تصرفها نحو الصغائر، كما تدعو إليه في أسمى الأمور، إن ذلك الرجل الحكيم النابه الذي استأثر بمقاليد الحكم، وأسس وحدة الأمة، ووحدة السلطة معاً وشاد بواسطة معاهداته نوعاً من التوازن السياسي، والذي اتسع تسامحه الفياض لأن يدعو إلى نعيمه رجالاً (٦٨) غير مسلمين، لأجدر بأن يعتبر قريناً لملوك العصر الحديث، لا خليفة من خلفاء العصور الوسطى " (٦٩).

مات الخليفة الناصر في رمضان سنة ٣٥٠ هـ/تشرين الأول ٩٦١ م بعد حكم دام نصف قرن من الزمن قضاه في نضال شاق لإعادة وحدة البلاد الوطنية، وكبح جماح الدول الطامعة في الأندلس، وخلف منجزات عظيمة على كافة المستويات جنى ثمارها من بعده خليفته وولده الحكم المستنصر.


(٦٧) سالم، المسلمون وأثرهم في الأندلس: ٣١٧.
(٦٨) الإشارة هنا، إلى أمراء وملوك الممالك الشمالية الإسبانية.
(٦٩) عنان، دول الإسلام: ٢/ ٤٦٣.

<<  <   >  >>