للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنفع له، وأغيظ للشيطان. ومن ذلك نهيه أن يقول الرجل: خبثت نفسي، ولكن يقول: لَقِسَتْ نَفْسِي، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، أَيْ: غَثَّتْ نَفْسِي، وَسَاءَ خُلُقُهَا، فَكَرِهَ لَهُمْ لَفْظَ الْخُبْثِ؛ لِمَا فيه من القبح والشناعة. ومنه نهيه عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَمْرِ: لَوْ أني فعلت كذا وكذا، وقال: «إنها تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى مَا هُوَ أنفع منها، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: «قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» (١) وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ كُنْتُ فَعَلْتُ كذا لَمْ يَفُتْنِي مَا فَاتَنِي، أَوْ لَمْ أَقَعْ فِيمَا وَقَعْتُ فِيهِ - كَلَامٌ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ فائدة، فإنه غير مستقبل لما استدبر، وغير مستقيل عثرته بـ " لو "، وفي ضمنها أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَدَّرَهُ فِي نفسه لكان غير ما قضاه الله، ووقوع خلاف المقدر مُحَالٌ، فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ كَذِبًا وَجَهْلًا وَمُحَالًا، وَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ، لَمْ يَسْلَمْ من معارضته بـ " لو ". فإن قيل: فتلك الأسباب التي تمناها من القدر أيضا، قِيلَ: هَذَا حَقٌّ، وَلَكِنَّ هَذَا يَنْفَعُ قَبْلَ وقوع القدر المكروه، فإذا وقع فلا سبيل إلى دفعه أو تخفيفه، بل وظيفته في هذه الحال أَنْ يَسْتَقْبِلَ فِعْلَهُ الَّذِي يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يُخَفِّفَ أَثَرَ مَا وَقَعَ، وَلَا يَتَمَنَّى مَا لَا مَطْمَعَ فِي وُقُوعِهِ، فَإِنَّهُ عَجْزٌ مَحْضٌ، والله يلوم على العجز، ويحب الكيس، وهو مباشرة الأسباب، فهي تفتح عمل الخير، وأما العجز فيفتح عَمَلَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَمَّا يَنْفَعُهُ صار إلى الأماني الباطنة؛ وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العجز والكسل، وَهُمَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَيَصْدُرُ عَنْهُمَا الْهَمُّ وَالْحَزَنُ، وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فَمَصْدَرُهَا كُلُّهَا عَنِ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَعُنْوَانُهَا " لَوْ "؛ فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ " لَوْ " تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» . فَالْمُتَمَنِّي مِنْ أعجز الناس وأفلسهم، وَأَصْلُ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الْعَجْزُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْجِزُ عن أسباب الطَّاعَاتِ، وَعَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُبْعِدُهُ عَنِ الْمَعَاصِي وتحول بينه وبينها، فجمع في هذا الحديث الشريف أصل الشر وفروعه، ومبادئه وغاياته، وموارده ومصادره، وهو مشتمل على ثمان خِصَالٍ، كُلُّ خَصْلَتَيْنِ مِنْهَا قَرِينَتَانِ، فَقَالَ: «أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ» وَهُمَا قَرِينَانِ، فَإِنَّ المكروه الوارد على القلب إما أن يكون سببه أمرا ماضيا،


(١) ولا يقول: لو، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان (مسلم) .

<<  <   >  >>