للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المذكور، وتقول: ما أنت بنيت هذه الدار، وما أنا قلت هذا الشعر، فتفيد بذلك أن هذه الدار المبنية لم تبنها أنت وإنما بناها غيرك، وأن هذا الشعر لم تقله أنت وإنما قاله غيرك، وعلى هذا لا يصح أن تقول ما أنا فعلت هذا، ولا أحد من الناس؛ لأن قولك: ما أنا فعلت يفيد أن هناك فعلا قد فعل، وأنك أنت خصوصا لم تفعله، وإنما غيرك هو الذي فعله، فإذا قلت: ولا غيري كان ذلك تناقضا، ودفعا للكلام الأول.

ويتضح هذا أكثر في قولك: ما أنت بنيت هذه الدار؛ لأن قولك: ما أنا بنيت، أفاد ذلك أن هذا بناء قد أقيم، وأنه لم يكن أنت الذي أقامه وإنما أقامه غيرك، فلو قلت: ولا غيري، تناقض ذلك وكأنك تقول: إن هذا البناء لم أبنه أنا ولم يبنه غيري، وهذا واضح.

ومماجرى على هذا الأسلوب قول المتنبي: "من السريع"

وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارًا

فقوله: ما أنا أسقمت جسمي، معناه أن هذا السقم الكائن في جسمي، وهذا الضنى لم أفعله أنا وإنما فعله غيري، وقوله: ولا أنا أضرمت في القلب نارًا أي أنا هذا الجوى، وهذا الوجد الذي يستعر في فؤادي لم أشعله أنا ووراء هذا التركيب معنى لطيف هو عجز الشاعر أمام عواطفه المشبوبة، والتي سببت هذا السقم وهذا الوجد، وكأنه يقول: لو كان الأمر بيدي لأنقذت نفسي من هذا الذي أجده ولكن لا طاقة في بذلك، وهذا معنى جيد.

ومثله قول المتنبي: "من الطويل"

وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه شعر

فقوله: وما أنا وحدي قلت ذا الشعر وحده، ينفي أن يكون هذا الشعر الكائن قد قاله وحده، وإنما قاله معه غيره، وهذا التغير هو الشعر نفسه؛ لأنه شعر

<<  <   >  >>