للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وانظر إلى قصة ثانية تحكي جانبا من جوانب هذا الموقف الحافل الذي تناولته آيات كثيرة كما أشرنا، وكل واحدة منها تبرز جانبًا من جوانبه.

يقول سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد} ١.

ليس من شك في أن صيغة الماضي ألقت على الأحداث طابع الحكاية المروية، وكأن كل ذلك قد وقع، وأنت الآن تسمع تلك القصة التي تملأ قبلك إشفاقا وخشية، هذا الأسلوب لا يدعك تفكر في إمكان وقوع الأحداث كما يكون الحال لو جاء بصيغة المضارع، وإنما يدعك تفكر في الأحداث، والمواقف نفسها لتتأمل ما فيها من رهبة، أو رغبة فمسألة الوقوع، وعدمه ألغاها الفعل الماضي حين صيرها واقعا يروى، ونقلها من الممكن الذي سيكون، والآيات فيها كثير من الإشارات، والخصائص الواقعة أحسن موقع.

انظر كيف بدأت طريق القيامة من أوله أي حين يقارب خطو الإنسان عتبة الآخرة بمجيء سكرة الموت بالحق، وانظر إلى كلمة: وجاءت سكرة الموت، ولفظ الماضي الذي لا يدع الخاطر يحوم في أفق الانتظار، وإنما يلج به قلب الحقيقة التي شملته وأحاطت به، وانظر إلى اسم الإشارة الذي يتردد في هذا السياق ليبرز الحقائق التي كانت تحيد عنها النفوس، وتأمل كلمة: {تحيد} في قوله: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ، تجدها تبلغ الغاية في الدقة وتصوير حال النفس التي لا تستطيع أن تحدق في الحقائق القاسية، كلمة: {تحيد} تصف.


١ سورة ق: ١٩-٢٤.

<<  <   >  >>