للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يلح عليه ليصوره كما يجده في أبعاده الشاعرة، فكانت كل نغمة ورنة في هذا التكرار كأنها تحمل صورًا، وأطيافًا من هذه الأبعاد الغائرة، والذي يعرف تاريخ كليب، وقدره في عشيرته، وبيئته يستطيع أن يتعمق هذا التكرار.

قلت: إن التكرار كأنه دندنة تستعذبها النفس المليئة أو المستفزة، شاجية كانت أو طروبة، وهذا يفسره من بعض جوانبه قولهم: إن باب الرثاء أولى ما تكرر فيه الكلام لمكان الفجيعة، وشدة القرحة التي يجدها المتفجع، وقيل لبعضهم: متى تحتاج إلى الإكثار؟ فقال: إذا عظم الخطب.

ومن شواهد هذا التكرار قول ابنة النعمان بن بشير الأنصاري الصحابي ترثي زوجها: "من الطويل"

وحدثني أصحابه أن مالكا ... أقام ونادى صحبه برحيل

وحدثني أصحابه أن مالكا ... ضروب بنصل السيف غير نكول

وحدثني أصحابه أن مالكا ... صروم كماضي الشفرتين صقيل

كررت قولها وحدثني أصحابه؛ لأنه ذو أثر عميق في هذا الموقف، وهي مشغولة به بل هي ملهوفة عليه، فهؤلاء الرفاق شهدوا تلك الساعة الفاجعة، وحدثوها بخبرها الموجع، فلم يمس قلبها فحسب، وإنما فطره وولج إلى سويدائه، فكان نشيدها الباكي.

وكانت الخنساء تلح على مقاطع من المعنى كأنها جذور غارت في ضميرها، فتجد في هزها ما يخفف آلامها الكظيمة، خذ مثلًا طلب البكاء من عينيها تجده يشيع في ديوانها، وهو في حقيقته مظهر استسلامها لأساها، وعجزها عن فلسفة التصبر التي كانت من الممكن أن تكفكف بعض دموعها، تقول: "من المتقارب".

أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى؟

ألا تبكيان الجواد الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا؟

<<  <   >  >>