للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالمتنافر من كلامٍ أن تكون كلماته ثقيلة على اللسان، وإن كان كل منها فصيحة بإنفرادها، فمنهم ما هو أعلى ومنه ما هو دون، يعني كالتنافر في المفرد، يعني منه ما بلغ الغاية في التنافر ومنه ما هو دون ذلك.

الأول: مَثَّلُوا له بمثال مشهور بقوله: ((وليس قرب قبر حرب قبر)).

وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر قرب

لوحدها فصيحة، وقبر فصيحة، لكن لَمَّا ضُمّ بعض الكلمات إلى بعض في هذا الموضع صار فيها ثقل على اللسان، وليس قرب قبر حبر قبر، هنا القافات متتالية ثم الراءات فصار هناك ثِقَل في اللسان، قالوا: هذا تنافر بين الكلمات، فكل كلمة على حدة هي فصيحة، قرب فصيحة، قبر فصيحة لكن لَمَّا جمع بينهما في سياق واحد وفي مصراع واحد، والشاهد في المصراع الثاني، قالوا: هذا تنافر بين الكلمات.

قال الرماني في هذا البيت: ذكروا أنه من شعر الجن. يعني هذا البيت وأنه لا يتهيأ لأحد أن يُنْشِدَهُ ثلاث مرات فلا يَتَتَعْتَع، [ها من ينشده ثلاث مرات وله جائزة] ((وليس قرب قبر حرب قبر) قالوا: لا يستطيع أن يأتي به ثلاثة مرات، سَهْل جئت به كم مرة، إذًا قالوا: هنا حصل تنافر بين الكلمات، وهذا النوع أعلى مراتب التنافر، وهو من تنافر الكلمات لأن كل كلمة على انفراده لا تنافر فيها.

الثاني: نحو قول أبي تمام:

كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُهُ وحدي

قالوا: أمدحه لوحدها لا تنافر فيها، لوجوده في القرآن {فَسَبِّحْهُ} ... [الطور: ٤٩] لَمَّا كُرِّرَتِ الكلمة صار فيه نوع ثِقَل أَمْدَحُهُ أَمْدَحُهُ إذا حصل فيه نوع ثقل والحكم بالثقل هنا كما سبق إنما يكون المرد فيه إلى الذوق السليم، الإنسان من نفسه يقول: ما فيه بأس. نقول: لا، غيرك من أهل البيان يراه أن به بأس.

إذًا التكرار هنا ليس كالتكرار السابق، فالتنافر بين أجزاء أمدحه وأمدحه ليس كالتنافر بين ((ليس قرب قبر حرب قبر))، فهذا أخفّ من الأول، فإن قوله: أمدحه ثِقَلاً ما لكنه أقل من السابق لِمَا بين الحاء والهاء من تنافر لتقارب المخرجين، هكذا علل كثير، وقيل: سبب التنافر ليس هو تقارب الحرفين لأنه موجود في القرآن {فَسَبِّحْهُ} لو حكمنا على ذلك لقلنا التنافر بين حرفين يُخرج الكلمة عن كونها فصيحة، وهذا لا وجود له في القرآن البتة، الفصيح القرآن كلماته ومفرداته وتراكيبه كلها في أعلى درجات الفصاحة، ليس فصيح بحسب، فحينئذ {فَسَبِّحْهُ} الحاء والهاء جاءا في القرآن، إذًا الجمع بين الحاء والهاء في كلمة واحدة لا يُعَدّ تنافرًا لماذا؟ لوجوده في القرآن، ولذلك ما قلنا مرارًا في دروس اللغة أننا نستدل على إثبات القواعد بالقرآن، ولا نأتي نقعد قواعد من كلام أهل الجاهلية ثم نأتي نقول: القرآن خالف القاعدة هذا خلل، وإنما العكس هو الصحيح، أن نقعد من القرآن وما جاء به القرآن فهو أعلى درجات الفصاحة، وما جاز في القرآن فهو قاعدة بذاتها، نعم قد تقل قد تكثر، هذا يختلف باختلاف المواضع.

<<  <  ج: ص:  >  >>