للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المطلب الأول

الشكوى والتقاضي

نظمت الشريعة الإسلامية قبل أربعة عشر قرناً من الزمن العلاقة بين العبد وربه ابتداءً، ثم بين العباد بعضهم البعض، وبالتالي اهتمت الشريعة الإسلامية بتنظيم العلاقة بين العامل وصاحب العمل، فالإسلام لم يترك أطراف العقد دون رقيب أو حسيب، فعمل على إشاعة العدل ونشر الأمن والطمأنينة بين فئات العمال، ومن هنا جاءت الآيات القرآنية المطهّرة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحذر من الظلم، بل وتطالب المجتمع برفعه عن المظلوم، ومن هذه الآيات قول الله - سبحانه وتعالى -: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} (١)، وكذلك قوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (٢)،

وفي الحديث القدسي يقول الله - سبحانه وتعالى -:" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إِنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عِبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه" (٣).

وبهذه النصوص ومثلها قرر الإسلام مبدأ العدل والمساواة، ولكن النفس البشرية - الأمّارة بالسوء- قد تسيطر على صاحبها فتدفعه لأن يظلم أو ينتقص حقاً من حقوق الغير بدوافع عدّة، لهذا شرع الإسلام للمظلوم أن يرفع مظلمته لصاحب الأمر، بغضّ النظر عن هذه المظلمة، وعلى ولي الأمر النظر في الشكوى المرفوعة إليه، وأن يأخذ الحق من الظالم ويُعطيه لصاحبه، ودفعاً للظلم أباحت الشريعة الإسلامية وسائل عدة للتظلّم، ومن هذه الوسائل الاحتجاج لولي الأمر، ولهذه الوسيلة شاهد من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث جاءه رجل وقال له:" يا رسول الله أمرني مولاي أن أقدّد لحماً


(١) سورة غافر، آية رقم ٣١.
(٢) سورة النمل، آية رقم ٥٢ ..
(٣) رواه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، ص ١٠٨٤، برقم (٢٥٧٧).