للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولأن الإنسان بإنسانيته محور الشرائع السماوية التي أنزلها الله - سبحانه وتعالى - على جميع الأنبياء والرسل من لدن آدم عليه السلام، وصولاً إلى خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم -، اعتنت الشريعة الإسلامية بالإنسان أياً كانت صفته، مسلماً أو كافراً، ذكراً أو أنثى، لذلك جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين جميعا، كما في قوله - سبحانه وتعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (١).

ولا تقف حماية الدولة للفرد عند حدّ حمايته من الاعتداء على حياته وجسمه وعرضه، بل تمتد إلى حماية كرامته وعزته من الإهانة والإذلال، فلا تُذله هي ولا تسمح بإذلاله، لأن المسلم يجب أن يكون عزيزاً لقول الله - سبحانه وتعالى -: {ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (٢) ولا خير في الذليل المهين، ولن يصلح لحمل رسالة الإسلام إلا الحرّ العزيز، ومن ثم فإن الدولة الإسلامية تُربّى في المسلم معاني العزة، كما أراد الله، فعمر بن الخطاب كان يؤدّب ولاته، ويأمرهم بالحضور في موسم الحج، فإذا اجتمعوا خطب في الناس وقال لهم:" ... ألا إني والله ما أُرسل إليكم عمّالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أُرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم، فمن فُعل به غير ذلك فليرفعه إليّ، فو الذي نفسي بيده إذاً لأُقصّنّه منه، فوثب عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - (٣) فقال: يا أمير المؤمنين إن كان رجل من المسلمين على رعيّةٍ فأدّب رعيته أئنك لمقتصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده، إذن لأُقصّنّه منه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقصّ من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتُذلوهم، ولاتمنعوهم حقوقهم فتُكفّروهم، ولا تنزلوهم الغياض (٤)

فتضيعوهم" (٥).

ومعنى هذا أن الراعي إذا أدّب أحداً من رعيته- ولو بالضرب المشروع- فلا قصاص فيه بالإجماع، إذ هو واجب، أو مستحب، أو جائز (٦)،ولقد أعزّ الله - سبحانه وتعالى - العامل ورعاه، وكرّمه وأعلى درجته،


(١) سورة الأنبياء، آية رقم ١٠٧.
(٢) سورة المنافقون، آية رقم ٨.
(٣) أسلم قبل الفتح، وذلك في صفر سنة ٨هـ، كان يقول: أذكر الليلة التي ولد فيها عمر بن الخطاب، ولي إمرة مصر زمن عمر - رضي الله عنهم - وهو الذي فتحها، لحق معاوية في فتنته مع علي، كان شديد الحياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مات سنة ٤٣هـ على الصحيح من كلام أهل التراجم. ابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة، ج٣، ص٤.
(٤) الغياض: جمع غيضة، وهي الشجر الملتف، لنهم إذا نزلوها تفرقوا فيها فتمكّن منهم العدو، ابن منظور، لسان العرب، باب الغين، ج٧،ص ٢٠٢ ..
(٥) رواه أحمد في مسنده، ج١، ص٢٨٦، برقم (٢٨٦) وحكم عليه محقق المسند شعيب الأرنؤوط بأن إسناده حسن.
(٦) ابن تيمية، أحمد، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، ص١٣٢، ط١، ١٩٨٣م، دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان.