[أهمية تزكية النفوس وبيان مناهجها]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
ثم أما بعد: فإن من المهمات التي بعث بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تزكية نفوس العباد، كما قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:٢]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله عز وجل هذه الزكاة لنفسه فيقول: (اللهم آت نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
كما تمنن الله عز وجل على المؤمنين بهذه الزكاة فقال عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:٢١]، فالله عز وجل يتفضل على من يشاء بالتزكية.
وقد أقسم الله عز وجل في كتابه أحد عشر قسماً متوالياً -وليس في القرآن كله أقسام متوالية بهذا العدد وعلى هذا النسق- على حقيقة: وهي أن فلاح العباد ونجاحهم منوط بتزكية نفوسهم، وأن خيبتهم وخسارتهم منوطة بتدسية نفوسهم، فقال عز وجل: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:١ - ١٠].
فهذه الأقسام المتوالية على أن فلاح العباد منوط بتزكية نفوسهم.
فقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) * (وقد خاب من دساها) فما معنى التزكية وما معنى التدسية؟ التزكية: هي التنمية والإصلاح.
يقولون: زكا الزرع إذا نما وصلح وبلغ كماله.
فتزكية النفس: هي تنميتها وتعليتها وتنقيتها وإصلاحها بتوحيد الله عز وجل وطاعته؛ لأن النفس تزكو بذلك وتعظم وتطهر.
أما التدسية: فهي التحقير والتصغير، فالنفس تصير حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها، كما قال عز وجل: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:٥٩]؛ أي: يخفيه في التراب.
فالنفس تنمو وتصلح بطاعة الله عز وجل، وتصغر وتصير حقيرة دنيئة بمعصية الله عز وجل! فالعباد يجهلون مواقع السعادة ولا يعلمون أن سعادتهم في صلاح نفوسهم وتزكيتها، والله عز وجل قال: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢].
والجاهل لا يدري مصلحته، فينبغي أن يجبر على ما فيه صلاحه.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا، فينبغي علينا أن نكرهها.
فالنفوس الجاهلة لا تعلم أن مصلحتها وسعادتها في طاعة الله عز وجل، وفي الاستجابة لأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا أجبر العبد نفسه على الطاعة وعلى العبادة وعلى الاستقامة على طريق الله عز وجل، فعند ذلك تذوق النفس حلاوة الطاعة والعبادة، وبعد ذلك تساعد النفس صاحبها وتأتي معه على طاعة الله عز وجل.
وقال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة.
أي: ثقل على نفسه قيام الليل وعالج قيام الليل.
ومنهم من يفتح عليه في الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الناس الخير.
ومنهم من يفتح له في قضاء حوائج الناس، وتحقيق مآربهم.
ومنهم من يفتح له في الجهاد والبذل لإعلاء دين الله عز وجل ورفع رايته.
وهناك من يوفق لكل هذه الأبواب، فإذا نظرت في الحجاج وجدته وسطهم، وإذا نظرت في المجاهدين وجدته بينهم، وإذا نظرت في العلماء وجدته في صفهم، فلو قيل له: ماذا تريد يقول: طاعة ربي جمعتني أو فرقتني، فهو السابق بالخير والمسارع إلى كل سبيل يرضي ربه عز وجل.
فهذه مناهج التزكية عند أهل السنة والجماعة: التزكية بالتوحيد، التزكية بأداء الفرائض، التزكية بالإكثار من النوافل.