[المسارعة إلى التجارة مع الله تعالى]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فإن مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة؟ فوالله ما هزلت فيستامها المبطلون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق لمن يريد، فلم يرض لها ربها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون، وقام المحبون، ينتظرون أيهم يصلح أن تكون نفسه الثمن، فدارت السلعة في أيديهم، ووقعت في يد أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.
لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم، لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١].
فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، فقيل: لا تقبل هذه البينة إلا بتزكية: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:٥٤].
فتأخر الخلق كلهم، وثبت المجاهدون، فقيل: إن نفوس المجاهدين وأموالهم ليست لهم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١]، والعقد يوجب التسليم من الجانبين، لما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن، وجلالة قدر من وقع التبايع على يديه، علموا أن للسعلة قدراً وشأناً، فرأوا من الغبن الفاحش والخسران البين أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة، تذهب لذتها، وتبقى تبعتها، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان، فقيل لهم: إن نفوسكم وأموالكم قد صارت إلينا، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩].
فحي هلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا.
وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا.
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا.
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا لقد حرك الداعي إلى الله عز وجل وإلى دار السلام النفوس الأبية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذناً واعية، وأسمع الله من كان حياً، فهزه السماع إلى دار الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت رحاله إلا بدار القرار.
أرسل عبد الله بن المبارك -وكان مرابطاً بطرسوس- كتاباً إلى فضيل بن عياض الذي يلقب بعابد الحرمين يقول له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب.
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب.
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب.
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب.
لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ وغبار نار تلهب.
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب.
فلما وصل الكتاب إلى فضيل بن عياض بكى، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح، ثم قال للرسول: أتكتب الحديث، قال: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، ثم أملاه بسنده رواية لحديث أبي هريرة: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: لا أجده، قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله -أي: يحرك قدميه في موضع ربطه- فيكتب للمجاهد حسنات).
فأعلى تجارة وأغلى تجارة هي التجارة ببذل النفس والمال لله عز وجل، تجارة بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وكل معاملة شرعية مع الله عز وجل وكل عبادة لله عز وجل فهي تجارة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:٢٩].
فكل عبادة لله عز وجل فهي تجارة مع الله عز وجل، وكل تجارة مع الله عز وجل لا يمكن أن تبور بحال من الأحوال، والدنيا -عباد الله- سوق والناس كلهم تجار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر من خسر، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).
(يغدو) أي: يخرج غدوة أو في أول