ومن ثمار هذه الجهود المباركة علم الجرح والتعديل أو علم ميزان الرجال، وهو علم يبحث فيه عن أحوال الرُّوَاةِ وأمانتهم وثقتهم وعدالتهم وضبطهم أو عكس ذلك من كذب أو غفلة أو نسيان، وهو علم جليل من أَجَلِّ العلوم التي نشأت عن تلك الحركة المباركة لا نعرف له مثيلاً أيضاًً في تاريخ الأمم الأخرى، وقد أَدَّى إلى نشأة هذا العلم حِرْصُ العلماء على الوقوف على أحوال الرُّوَاةِ، حتى يميزوا بين الصحيح من غيره، فكانوا يختبرون بأنفسهم من يعاصرونهم من الرُّوَاةِ إذ كان ذلك ذَبًّا عن دين الله وَسُنَّةِ رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ قِيلَ لِلْبُخَارِيِّ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ التَّارِيخَ يَقُولُونَ: فِيهِ اغْتِيَابُ النَّاسِ، فَقَالَ:«إِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ رِوَايَةً وَلَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ».
وقد ابتدأ الكلام عن الرُّوَاة توثيقاً وتوهيناً منذ عصر صغار الصحابة كابن عباس (- ٦٨ هـ) وعُبادة بن الصامت (- ٣٤ هـ) وأنس بن مالك (- ٩٣ هـ) ثم من التَّابِعِينَ: سعيد بن المسيّب (- ٩٣ هـ) والشعبي (- ١٠٤ هـ) وابن سيرين (- ١١٠ هـ) والأعمش (- ١٤٨ هـ) ثم تتالى الأمر، فنظر في الرجال شُعْبَةُ (- ١٦٠ هـ) وكان مُتَثَبِّتًا لا يروي إلا عن ثقة، والإمام مالك (-١٧٩ هـ). ومن أشهر علماء الجرح والتعديل في هذا القرن الثاني مَعْمَرُ (- ١٥٤ هـ) وهشام الدستوائي (- ١٥٤ هـ) والأوزاعي (- ١٥٧ هـ) والثوري (- ١٦١ هـ) وحماد بن سلمة (- ١٦٧ هـ) والليث بن سعد (- ١٧٥ هـ) ونشأ بعد هؤلاء طبقة أخرى كعبد الله بن المبارك (- ١٨١ هـ) والفَزَاري (- ١٨٥ هـ) وابن عُيينة (- ١٩٨ هـ) وَوَكِيعٌ بْنُ الجَرَّاحِ (- ١٩٧ هـ) ومن أشهر علماء هذه الطبقة يحيى بن سعيد القطان (- ١٩٨ هـ) وعبد الرحمن بن مهدي (- ١٩٨ هـ) وكانا حُجَّتَيْنِ مَوْثُوقَيْنِ لدى الجمهور فمن وَثَّقَاهُ قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ، ومن جَرَّحَاهُ رُدَّتْ، وإن اختلف فيه رجع الناس إلى ما تَرَجَّحَ عندهم (١).