للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حق أبي حنيفة أن يمر اسمه في التاريخ عبقاً عاطراً مُجْمَعًا على جلالته وعظيم خدماته للإسلام، بما وَطَّدَ من أركان الفقه وما أخرج للدنيا من علماء أَجِلاَّءَ، ولكنا نرى هذا الإمام قد أثيرت في عصره ضجة كبرى حوله، كما استمرت هذه الضجة بعد وفاته، وانقسم الناس في أمره بين معترف بفضله، مُذْعِنٍ لعلمه، مُقِرٍّ بإمامته وهؤلاء هم جمهور المُسْلِمِينَ وبين حاقد عليه يَنَفِّرُ الناس عنه وعن فقهه، ويسيئ الظن به وبأصحابه، فما هو سر ذلك يا ترى؟ ومن هم هؤلاء الطاعنون؟

أَسْبَابُ هَذِهِ الضَجَّةِ:

١ - إن أبا حنيفة كان أول من توسع في استنباط الفقه من أئمة عصره، وفي تفريع الفروع على الأصول، وافتراض الحوادث التي لم تقع، وقد كان العلماء من قبله يكرهون ذلك، ويرون فيه ضياعاً للوقت ومشغلة للناس فيما لا فائدة فيه، وَقَدْ كَانَ زَيْدٌ بْنُ ثَابِتٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لا يَقُوْلُ: «هَلْ وَقَعَتْ؟» فَإِنْ قَالُوا: لاَ، قَالَ: «ذَرُوهَا حَتَّى تَقَعَ» أما أبو حنيفة فكان يرى غير ذلك إذ وظيفة المجتهد تمهيد الفقه للناس والحوادث وإن لم تكن واقعة زمن المجتهد لكنها ستقع، وإليك ما يعبر عن وجهة نظره كما ذكر الخطيب (١).

«عندما نزل قتادة الكوفة قام إليه أبو حنيفة، فقال له: " يَا أَبَا الخَطَّابِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ غَابَ عَنْ أَهْلِهِ أَعْوَامًا، فَظَنَّتْ امْرَأَتَهُ أَنْ زَوْجَهَا مَاتَ، فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ رَجَعَ زَوْجُهَا الأَوَّلُ، مَا تَقُولُ فِيْ صَدَاقِهَا؟ " وَكَانَ أَبُوْحَنِيفَةَ قَدْ قَالَ لأَصْحَابِهِ الذِينَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ: " لَئِنْ حَدَّثَ بِحَدِيْثٍ لَيَكْذِبَنَّ، وَلَئِنْ قَالَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ لِيُخْطِئَنَّ ". فَقَالَ قَتَادَةُ: " وَيْحَكَ أَوْقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؟ " قَالَ:" لاَ ". قَالَ: " فَلَمْ تَسْأَلْنِيْ عَمَّا لَمْ يَقَعْ؟ " قَالَ أَبُوْ حَنِيْفَةُ: " لِنَسْتَعِدَّ لِلْبَلاَءِ قَبْلَ نُزُوْلِهِ، فَإِذَا مَا وَقَعَ، عَرَفْنَا الدُّخُولَ فِيهِ وَالخُرُوجَ مِنْهُ "».

وقد عُرِفَتْ مدرسة أبي حنيفة بمدرسة (الأَرَأَيْتِيِّينَ) أي: الذين


(١) " تاريخ بغداد ": ١٢/ ٣٤٨.

<<  <   >  >>