للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن المعلوم أنَّ من أواخر ما نزل على النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كتاب الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (١) وذلك يعني: كمال الإسلام وتمامه.

فما توفي رسول الله إلاَّ وقد كان الإسلام ناضجاً تاماً لا طفلاً يافعاً كما يَدَّعِي هذا المستشرق، نعم لقد كان من آثار الفتوحات الإسلامية أنْ واجه المُتَشَرِّعِينَ المُسْلِمِينَ جزئيات وحوادث لم يَنُصُّ على بعضها في القرآن وَالسُنَّةِ، فأعملوا آراءهم فيها قياساً واستنباطاً حتى وضعوا لها الأحكام، وهم في ذلك لم يخرجوا عن دائرة الإسلام وتعاليمه، وحسبك أنْْ تعلم مدى نضوج الإسلام في عصره الأول، أنَّ عُمَرَ سيطر على مملكتي كسرى وقيصر وهما ما هما في الحضارة وَالمَدَنِيَّةِ، فاستطاع أنْ يسوس أمورهما، ويحكم شعوبهما، بأكمل وأعدل مِمَّا كان كسرى وقيصر يسوسان بها مملكتيهما، أترى لو كان الإسلام طفلاً، كيف كان يستطيع عُمَرُ أنْ ينهض بهذا العِبْءِ ويسوس ذلك الملك الواسع، ويجعل له من النظم ما جعله ينعم بالأمن والسعادة، ما لم ينعم بهما في عهد مَلِكَيْهِمَا السَّابِقَيْنِ؟

على أَنَّ الباحث المنصف يجد أنَّ المُسْلِمِينَ في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها كانوا يَتَعَبَّدُونَ عبادة واحدة، ويتعاملون بأحكام واحدة، ويقيمون أسس أسرهم وبيوتهم على أساس واحد. وهكذا كانوا مُتَّحِدِينَ في العبادات والمعاملات والعقيدة والعادات غالباً، ولا يمكن أنْ يكون ذلك لو لم يكن لهم قبل مغادرتهم جزيرة العرب نظام تام ناضج، وضع لهم أسس حياتهم في مختلف نواحيها، ولو كان الحديث أو القسم الأكبر منه نتيجةً للتطور الديني في القرنين الأولين للزم حتماً ألاَّ تَتَّحِدَ عبادة المسلم في شمال إفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، إذ أنَّ البِيئَةَ في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فيكف اتَّحَدَا في العبادة والتشريع والآداب، وَبَيْنَهُمَا مِنَ البُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا؟


(١) [سورة المائدة، الآية: ٣].

<<  <   >  >>