للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن الصحابة من كان يكثر الحديث عن الرسول ويستكثر منه أيضاً، فأبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان من أوعية الحديث التي فاضت على المُسْلِمِينَ فملأت بأخبار رسول اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحاديثه صدورهم ومجالسهم، وعبد الله بن عباس كان يطلب الحديث عند كبار الصحابة ويتحمل في سبيل ذلك عناء مشقة، أخرج ابن عبد البر عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: «كَانَ [يَبْلُغُنِي] الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ أَشَاءُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ حَتَّى [يَجِيئَ] فَيُحَدِّثَنِي فَعَلْتُ وَلَكِنِّي كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَيْهِ فَأَقِيلُ عَلَى بَابِهِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيَّ فَيُحَدِّثَنِي» (١).

وهكذا لقي في سبيل الحديث من العناء ما لقي إلى أن استوعب ما عند من لقيهم من الصحابة من حديث، فأخذ يبثه غير متزمت ولا مُقلٍ، ويظهر أنه أَقَلَّ من التحديث بعد ذلك حين بدأ الوضع في الحديث، فقد أخرج مسلم في " مقدمة صحيحه " أن بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا»، فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «مَا أَدْرِي أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَأَنْكَرْتَ هَذَا؟ أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَعَرَفْتَ هَذَا؟» فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، تَرَكْنَا الحَدِيثَ عَنْهُ».

ومهما يكن من إكثار بعض الصحابة التحديث عن رسول الله، فقد كان ذلك قليلا في عصر الشيخين أبي بكر وعمر، إذ كانت خِطَّتُهُمَا حَمْلَ المُسْلِمِينَ على التثبت في الحديث من جهة، وَحَمْلَ المُسْلِمِينَ على العناية بالقرآن أَوَّلاًً من جهة أخرى. قِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: أَكُنْتَ تُحَدِّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ أُحَدِّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ مِثْلَ مَا أُحَدِّثُكُمْ لَضَرَبَنِي بِالدِّرَّةِ» (٢).

وهنا لا بد من التعرض لبحثين يتعلقان بموقف عمر من الحديث وموقف غيره كذلك.


(١) " جامع بيان العلم ": ١/ ٩٤.
(٢) المصدر السابق: ٢/ ١٢٠.

<<  <   >  >>