للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء الصحابة كانوا من الجُرْأَةِ في الحق والتفاني في الدفاع عما يعتقدون أنه حق، ومن تغليبهم الحق على كل صديق وصاحب وقريب، بحيث يستحيل عليهم أن يكذبوا على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اتباعاً لهوى أو رغبة في دنيا، إذ لا يكذب إلا الجبان، كما يستحيل عليهم أن يسكتوا عمن يكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم الذين لا يسكتون عن اجتهاد خاطئ يذهب إليه بعضهم بعد فكر وإمعان نظر.

واسمع ما يقوله الصحابة أنفسهم في هذا الموضوع:

أخرج البيهقي عن البراء: «لَيْسَ كُلُّنَا كَانَ يَسْمَعُ حَدِيثَ النَّبِيِِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَتْ لَنَا ضَيْعَةٌ وَأَشْغَالٌ، وَلَكِنَْ كَانَ النَّاسُ لَمْ يَكُونُوْا يَكْذِبُونَ فَيُحَدِّثُ الشَّاهِدُ الغَائِبَ».

وأخرج عن قتادة: أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَ بِحَدِيثٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: «أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟»، قَالَ: «نَعَمْ، أَوْ حَدَّثَنِي مَنْ لَمْ يَكْذِبْ، وَاللهِ مَا كُنَّا نَكْذِبُ وَلاَ كُنَّا نَدْرِي مَا الكَذِبُ» (١).

لا يبقى بعد هذا شك في أن الكذب لم يكن على عهد رسول الله من الصحابة ولا وقع منهم بعده، وأنهم كانوا محل الثقة فيما بينهم لا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وكل ما كان بينهم من خلاف فقهي لا يتعدى اختلاف وجهات النظر في أمر ديني وكل منهم يطلب الحق وينشده.

أما عصر التَّابِعِينَ فلا شك أن الكذب كان في عهد كبارهم أقل منه في عهد صغارهم، إذ كان احترام مقام رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعامل التقوى والتدين أقوى في ذلك العصر منه في العصر الثاني، وأيضاً فقد كان الخلاف السياسي الأول في عهده، فكانت البواعث على الوضع في الحديث ضَيِّقَةً بالنسبة للعصور التالية، ويضاف إلى ذلك أن وجود الصحابة وكبار التَّابِعِينَ المشهورين بالعلم والدين والعدالة واليقظة، من شأنه أن يقضي على الكَذَّابِينَ ويفضح نواياهم ومؤامراتهم، أو أن يَحُدَّ نشاطهم في الكذب.


(١) " مفتاح الجنة " للسيوطي: ص ٢٥.

<<  <   >  >>