للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقرة للمفردة تحدّثوا عن جمالها الموسيقى، ولكنّ متابعة قدرتها التصويرية في التجسيم والتشخيص كانت ضئيلة.

كما يجب علينا ألا ننتظر سياق الاستعارة الواضحة صنيع القدامى، إذ أهملوا ما يكون في إحكام الصورة، من مثل قوله عز وجل: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ «١» فالصفة هنا تضيف شيئا آخر إلى حسية التذوق، والاهتمام بهذا أجدر من التأكد، إن كان العرب ذكروا مثل هذه الاستعارة أو تلك أو لم يذكروا، وكان من الممكن أن يقال «عذاب عظيم» كما يرد في غير مكان، ولكنه البيان القرآني الذي يفضّل حسية كل معنوي ليس مراعاة للعرب، بل موافقة للجنس البشري.

ومن الطبيعي أن يستقي الباحث جمالية التجسيم من فصول الاستعارة والتشبيه، وهذا واضح في كتب القدامى والمحدثين، وإن المحدثين لم يضيفوا الإضاءة على الكلمة المجسّمة في الآية، فهذا مستفاد من إقرار الباحث القديم بوجود استعارة أو تشبيه، فلا بدّ من وجود كلمة نقلت من مجال إلى مجال آخر، أو يشبّه معنويّ بحسّي أو ما «تقع عليه العين» كما أراد الرماني.

كما أن القدامى فهموا أن حسية التجسيم لا تطلب لذاتها، بل لما وراءها من إيحاءات نفسية، قال ابن الأثير: «وأما فائدة التشبيه من الكلام فهي أنك إذا مثّلت الشيء بالشيء، فإنما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبّه به أو بمعناه، وذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه أو التنفير عنه» «٢».

ولم تقصر أفهام القدامى عن استيعاب هذه الدلائل النفسية، وإن عبارة «تشبيه المعقول بالمحسوس» لا تختلف عن مفهوم التجسيم إلا اختلافا اصطلاحيا لا يمسّ المضمون.

وإنهم اهتموا كما اهتم المحدثون بالكلمة المجسّمة، ذلك الإكسير الذي يقوم بعملية التحويل، ويكمن في صلب الجملة القرآنية، ونحن لم نستنطق تأملاتهم ما لم يكن فيها بدءا من الرماني، وينطبق هذا على جهود المحدثين.


(١) سورة فصّلت، الآية: ٥٠.
(٢) ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر: ١/ ٣٩٤.

<<  <   >  >>