للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لقد نبذ التعبير القرآني جانبا قيود القافية الشعرية الموحّدة، والوزن الواحد الذي يبعث أحيانا على الرّتابة، خصوصا إذا نظرنا إلى تلوّن إيقاع القرآن مع تلوّن المواضيع، وإضافة إلى هذا لا تكون الفاصلة قلقة، بل توافق بنيتها المعنى المقصود تماما إذا كان المعنى يتمتّع بأكثر من صيغة مثل «قادر ومقتدر» و «غافر وغفّار» وعال وأعلى، وقد اعتمد إيقاع التكرار، وأحيانا نجد لازمة موسيقية مثل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «١» وتبدو عنصر تنبيه وإمتاع معا، فقد تكررت هذه اللازمة في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة فالقرآن نظام صوتي حرّ وجديد.

تصور بعضهم قربه من الشعر، كما رأى المشركون، وقرّبه بعض المحدثين من النّثر، والحق أن الشبه الظاهري الذي يذكره الأقدمون بين القرآن والشعر غير تام، فرتابة الوزن استعيض عنها بإيقاع يبعث على الراحة في مكان، وعلى الانفعال القوي في مكان آخر، وقد تجسدت المشاعر في طول الآيات وقصرها، وهذا الشبه الظاهريّ الناقص ليس وحيدا في تهمة الشعر، بل السبب الأقوى هو العناد، إنما استغلّوا هذه الطريقة في القرآن لدعواهم الباطلة.

[- معارضة الشعراء للقرآن:]

ومن مظاهر حرية الفاصلة أنها حرة موسيقيا مقيدة بالمعنى، وقد تجاوزت أسسا كثيرة من أسس فنّ القافية، كوحدة حركة الحرف الذي يسبق الرّدف، أي الحذو، واختلاف سناد التوجيه أي حركة الحرف الذي يكون قبل الرّويّ المقيد، مثل «اصبر، ونظر»، والأمثلة كثيرة على حرية الفاصلة وجمالها معا، وكذلك اختلاف الرّويّ.

ولقد تحدث القدامى من الدارسين كالباقلّاني «٢» وغيره عن مواضع تشابه القرآن والشعر، ومواضع اختلافهما، ودفعوا عن القرآن تهمة الشعر والسجع، وشغلهم هذا الردّ عن معرفة ما وجد بديلا عن هاتيك القوقعة والجمود والرّتابة.


(١) سورة الرحمن، الآية: ١٣.
(٢) انظر الباقلاني، إعجاز القرآن، ص/ ٥١.

<<  <   >  >>