للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[- إشارة الجاحظ:]

لعلّ الجاحظ أول من أشار إلى جمالية الاختزان في ألفاظ القرآن، وإن كان التفسير بالمأثور قبله يفصّل معاني الألفاظ، ولا سيما كتاب أبي عبيدة «مجاز القرآن»، بيد أن الجاحظ ينظر إلى هذا الأمر من زاوية فنية بلاغية، فقد جاء في كتابه الحيوان أنّه رصد شواهد كثيرة في كتاب له مفقود اسمه «نظم القرآن»، ويقول: «ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف فضل ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول، والاستعارات، فمنها قوله تعالى حين وصف خمر أهل الجنة: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ «١» وهاتان الكلمتان قد جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا، وقوله عز وجل حين وصف فاكهة أهل الجنة، فقال: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ «٢»، جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني» «٣».

وهكذا تشير الآية الأولى مثلا إلى أن خمر الأرض تسبّب السّكر ثم التنازع والفراق، وكثرة الإحن والشّغب، وفيها ذهاب العقل والمال، فتختصر الكلمتان كلّ ما يمكن أن يحدث من قبائح مادية وروحية نعرفها في عصرنا من جرّاء معاقرة هذه الخمر.

والجدير بالذكر أن هذين الشاهدين يردان في معظم مصنّفات الدارسين بعد الجاحظ «٤»، وهذا ديدنهم غالبا، إذ كرروا الشواهد مع التعليق، ولهذا سوف نسعى إلى ذكر نماذج متمايزة تمثّل النظرة العامة لديهم، ونبتعد عن تكرارهم.

وفي كتاب «تأويل مشكل القرآن» لابن قتيبة، نجد نقولا عن أستاذه الجاحظ، وذلك من غير ذكر اسمه، ومن هذا القبيل ما ورد في باب العصا عند


(١) سورة الواقعة، الآية: ١٩.
(٢) سورة الواقعة، الآية: ٣٣.
(٣) الجاحظ، الحيوان: ٣/ ٨٦، وانظر: ٤/ ٢٧٨ منه أيضا.
(٤) انظر مثلا الثعالبي، أبو منصور، عبد الملك بن محمد، ١٨٩٧، الإعجاز والإيجاز ط/ ١، المطبعة العمومية بمصر، ص/ ١٠ وانظر ابن قيّم الجوزية، الفوائد، ص/ ١٣٥، والسيوطي، الإتقان: ٢/ ١١٩.

<<  <   >  >>