للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتقلقهم، فهذا في معنى تهزّهم هزّا، والهمزة أخت الهاء، فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصّوا هذا المعنى بالهمزة، لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز، لأنك قد تهزّ ما لا بال له، كالجذع وساق الشجرة، ونحو ذلك» «١».

والهمزة والهاء حرفان حلقيّان، ولاختلاف مكان كلّ منهما في مدرج الحلق كانت الهمزة أقوى من الهاء.

ونراه يستنطق الطبيعة ليفسّر الفرق بين النّضح والنّضخ، فيذكر الآية الكريمة: فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ «٢»، يقول: النّضخ للماء ونحوه، والنّضخ أقوى من النّضح، فجعلوا الحاء- لرقتها- للماء الضعيف، والخاء- لغلظها- لما هو أقوى منه» «٣»، فالخاء له دخل في الدّلالة على العنف والكثرة.

ولا بدّ من التنويه هنا بأنّ ابن جني لا يعطي لنظرية المحاكاة كلية التّفسير، فهي عنده تشمل قسما معيّنا من مفردات اللغة، فهذه الدّلالة الصوتية تمثل بعضا من كلّ، وهي كما رئي في العصر الحديث، فالعالم اللغوي «يسبرسن» يقدّم نظرية المحاكاة مع نظريات أخرى مخالفة، وكذلك سار علي عبد الواحد وافي وصبحي الصالح وإبراهيم أنيس على خطا ابن جني.

ولم تكن هذه الأصوات في معتقد ابن جني مصوّرة تماما للمعنى، بل هي تقوم بعامل الملاءمة، وتساعد على التصوير، وذلك يبدو جليّا من اختياره لتعريف الباب

بالمصاقبة، أي المقاربة أو المجاورة، وكذلك يعرّف الباب الثاني بالإمساس، ولا يقول بالمطابقة الكلية، وسوف يتضح هذا المنحى في تأملات دارسي الإعجاز المحدثين إذ لم يقولوا بالمحاكاة التامة دائما.

لقد ذكر ابن جني أمثلة كثيرة لهذا، ومنها كلمة «شدّ»، إذ يقول: «فالشين» لما فيها من التفشّي تشبه بالصوت انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليه إحكام الشدّ والجذب، وتأريب العقد، فيعبّر عنه بالدّال التي هي أقوى من


(١) ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص: ٢/ ١٤٦.
(٢) سورة الرّحمن، الآية: ٦٦.
(٣) ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص: ٢/ ١٥٨.

<<  <   >  >>