للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قوله تعالى: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ «١»، أراد تتميم المعنى بذكر تولّيهم في حال الخطاب، لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة، فإن الأصمّ يفهم بالإشارة ما يفهمه السّميع بالعبارة، ثم اعلم أن التولّي قد يكون بجانب من المتولّي، فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتولّ به» «٢».

وكأن عنوان هذا الفن يوحي بأن البيان القرآني يوغل في المعنى، وفي رسم المشاهد حتى يكون التصوير واضحا للعيان، ومؤثّرا بشكل أقوى.

والشواهد التي قدّمها ابن أبي الإصبع تميل إلى المعيار اللغوي دائما، ولهذا لم يكن منه تخيّل للإيحاءات النفسية التي تضيفها الفاصلة الموغلة، وهذا نستشفّه في تفسير أبي السّعود الذي سار على خطا الزمخشري، ففي تفسيره للآية: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ «٣» يقول: «والجلود عطف على «ما» وتأخيره عنه إما لمراعاة الفواصل، أو للإشعار بغاية شدّة الحرارة، بإيهام أنّ تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها على العكس» «٤».

فهو لا يسمّي هذا الفنّ، ولا يذكر شواهد شعرية شأن ابن أبي الإصبع، وهذه طبيعة كتب التفسير البياني المختلفة عن طبيعة كتب الإعجاز والبلاغة، ولكن يؤخذ عليه هنا تعدّد في الرأي، فرأيه بين مراعاة الفواصل، وأهمية معنى الجلود.

ولا شك أن كلمة الجلود هنا تنمّ على الإحساس بالنار التي تصهر، وهي كذلك توحي بالفروج، وما يتصل بها من زنى وقبائح، وأنّ الوقوف عليها يبعث في روع المرء رهبة، وقد تبيّن في العلم الحديث أنّ الجلد مستقل بمراكز إحساس، ولا يتلقّى الإحساس من الباطن.

لقد وردت في القرآن فواصل يظنّ أنها زائدة، وفائدتها تكمن في إحكام


(١) سورة الإسراء، الآية: ٨٣.
(٢) ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ ٢٣٤.
(٣) سورة الحجّ، الآية: ٢٠.
(٤) أبو السّعود العماديّ، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم: ٦/ ١٠١.

<<  <   >  >>