للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ «١».

ولا يبدو الجاحظ متناقضا، فهو يؤكّد طرفي الصياغة: المفردة والنظم، ويرى أن في المفردة محاسن تضاف إلى محاسن النظم، فهي الوحدة المشكّلة له.

لقد نوّه الجاحظ بجمالية أخرى للمفردة، يقول عن شكلها: «وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميّا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا، إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا ... إلا أني أزعم أنّ سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني» «٢».

هذه النظرية الوسطية في شكل المفردة تخلّصها من الابتذال والتوعّر، وهذا ما أسهب فيه ابن الأثير وغيره من الدارسين، وهنا يقترب الجاحظ من مصطلح اللفظ- المفردة، وليس الصياغة كلها التي يترك لها مصطلح الكلام، ونظريته تنصبّ في انتقائية صوتية، معيارها الذوق السمعي.

كذلك يطالعنا الخطابي في القرن الرابع بنظرات دقيقة في الفروق اللغوية عند ما دافع عن أسلوب القرآن، فقد أشار إلى فاعلية المفردة القرآنية من غير أن يدرجها في نطاق النظم، من استفهام وتقديم وتنكير وغيره، كما أراد بعده الجرجاني، وهو يختلف عن الجاحظ إذ قدم شواهد، وحلّلها عند ما نصّب نفسه للدفاع عن القرآن، وردّ تهمة اللّحن.

وخلاصة جهده هذا نفيه للترادف والتطابق التام بين دلالتين، وقد استعان بأساس اللغة العربية وفنونها، وتذوقه الشخصي، وتبحّره في ظلال المفردات.

وليست هذه الفروق التي يوردها مجرّد ملاحظات عابرة، فهو يحاول أن يقعّدها أحيانا بعبارة مطلقة، ومن ذلك قوله في تعليقه على الآية: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ «٣»: «إن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعنى، يحسبها أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، كالعلم والمعرفة، والحمد


(١) سورة البلد، الآيتان: ١٤ - ١٥.
(٢) الجاحظ، البيان والتبيين: ١/ ٨٠ - ٨١.
(٣) سورة الحشر، الآية: ٩.

<<  <   >  >>