للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع سنين، والأول أصح، وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة وهي بنت تسع سنين على رأس سبعة أشهر، وقيل: على رأس ثمانية عشر شهرًا.

ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، أوصت بذلك سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة سبعٍ وخمسين، والأول أصح، وصلى عليها أبو هريرة، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، وكُنيتها أم عبد الله، وروي أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا، ولم يثبت].

هذه هي الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، وهي أمنا أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، ولها خصائص منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها، وأن الوحي لم ينزل عليه عليه الصلاة والسلام في لحاف امرأة غير عائشة.

وقد شاع عنها حديث الإفك المعروف، وأصله أن النبي عليه الصلاة والسلام انصرف من بني المصطلق، ولما أناخ الجيش مطاياه، خرجت تلتمس عقدًا لها فقدته كانت أمها أم رومان قد أهدته لها، فلما ذهبت تلتمسه مضى الجيش، فجاء الموكلون بحمل هودجها وكانت امرأة آنذاك سنها تقريبًا في الرابعة عشر؛ لأن غزوة بني المصطلق كانت في نحو السنة الخامسة، والنبي صلى الله عليه وسلم تُوفي في الحادية عشرة ولها ثمانية عشر عامًا، فينجم عن هذا أن عمرها في حادثة الإفك في الرابعة عشر تقريبًا، فكانت امرأة خفيفة البدن غير مكتنزة اللحم، بل إنها كانت قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم نحيلةً جدًا، فأشار النبي عليه الصلاة والسلام على أبويها أبي بكر وأم رومان أن يُطعماها القثاء بالرطب حتى يمتلئ بدنها يسيرًا، ودخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في شهر شوال.

والمقصود أن الذين يحملون الهودج حملوه ولم يخطر ببالهم أبدًا أن أم المؤمنين ليست موجودةً فيه، فحملوا الهودج وذهبوا، فلما ذهبوا جاءت رضي الله عنها فأرضاها ولم يكن في ظنها أن تحدث أمور عظام على تأخرها هذا، وظنت أن الجيش سيفقدها على بعد قليل ثم يعودوا إليها، فأناخت تحت شجرة وتقنعت رضي الله عنها وأرضاها، وكان قد تأخر عن الجيش صفوان بن مُعطل السُلمي، فلما جاء صفوان ورآها عرفها، فلما عرفها رزقه الله وألهمه أن يقول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦]، والإنسان إذا ابتلي عليه أن يوطن نفسه على كثرة قول هذه الكلمة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦]، فـ صفوان كأنه علم أن هذا الأمر لن يتم بسهولة ولن يتركه المنافقون يمضي فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦]، ثم أناخ بعيره عندها وتنحى فركبت على البعير رضي الله عنها وأرضاها، وقاد صفوان الرجل الطاهر البعير دون أن يكلمها بكلمةٍ واحدة، فلما أشرف على الجيش رآه المنافقون، فقام عبد الله بن أبي فقال للناس: امرأة نبيكم مع رجل غيره، والله ما سلمت منه ولا سلم منها! (عياذًا بالله)، فألاك الناس الخبر وهي لا تدري، والله يقول: {الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور:٢٣]، يعني لا يعلمن ما يُدار ويُحاك حولهن، فلما رجعت إلى بيتها رضي الله عنها وأرضاها وجدت تغيُّرًا من النبي صلى الله عليه وسلم رغم وجعها، لكنه لم يخطر ببالها أن يكون هذا الأمر، حتى إن أمها أم رومان لم تكن تعلم؛ ثم إنها خرجت مع أم مسطح لتقضي حاجتها، ولم يكن الناس قد اتخذوا الكُنُف آنذاك، فعثُرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح! فسكتت عائشة، ثم عثرت مرة ثانية فقالت: تعس مسطح! تسب ابنها، فتعجبت عائشة، هي تريد أن تفتح الموضوع معها، فقالت لها: عجباً لك! رجلاً شهد بدرًا تسبينه؟! فذكرت لها القصة، فتعجبت وقالت: أو خاض الناس في هذا؟! ورجعت إلى البيت تبكي، ثم استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تُمرض عند أمها أم رومان فوافق عليه الصلاة والسلام.

فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلس على سقف البيت وهو الصديق الأكبر وأول الناس إسلاماً وخير العباد بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنه وأرضاه، لكن المؤمن مُبتلى، يجلس على سطح البيت يقرأ القرآن، وهو يسمع بكاء ابنته تحته، فلا يملك إلا أن يذرف دمعه ويقول: والله إنه لأمر ما فعلناه لا في جاهلية ولا في إسلام، يعني الزنا والخوض في الفواحش أمر لا نعرفه لا في جاهلية ولا في الإسلام، ثم لا يلبث أن يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦]، ويستحيي أن يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم في الموضوع، ويصبر على ما يجد.

وحدثت أمور بعد ذلك منها اختصام الأوس والخزرج لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، ثم بعد شهر تقريباً والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيه وحي حتى يعلم الناس أن النبي لا يأتي بقرآن من عنده، ولو كان القرآن من عنده لكان قاله سريعاً حتى يُبرئ زوجته، لكنه سكت لأن الله سكت، ومضى شهراً عليه الصلاة والسلام والناس يخوضون في عرض أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، ثم بعد شهر دخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي في بيت أبويها وأم رومان وأبو بكر عندها وهي تبكي، فقال لها: (يا عائشة! إن كنت قد فعلتِ فاستغفري الله)، وأخذ يعرض عليها الأمر، فقالت رضي الله عنها وأرضاها: والله إن قلت أنني بريئة لن تصدقوني، ولكني أقول كما قال العبد الصالح -نسيت اسم يعقوب على شهرته-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي تصبب منه العرق ولو كان في يوم شات، فنزل عليه الوحي: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:١١] إلى آخر الآيات في سورة النور فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! أبشري فقد برأك الله)، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله فاحمديه، فرفضت أن تقوم تدللاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهارًا لمكانتها، وقالت: لا أحمد إلا الله، فنجاها الله جلّ وعلا من حادثة الإفك، وبرأها الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات، وبرأ صفوان بن المعطل، وقال جلّ وعلا فيما قاله: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:٢٦]، ولم يقل جلّ وعلا -وهو أعلم-: أولئك مبرءون مما قالوا، بل قالها بصيغة المضارع ولم يقلها بصيغة الماضي مما يدل على أنه سيبقى من الناس من يخوض في عرض هذه الطاهرة التي برأها الله جلّ وعلا من فوق سبع سماوات، وهو ما هو حاصلٌ من بعض الفرق.

الذي يعنينا براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُسنِدٌ رأسه الشريف إلى صدرها ونحرها رضي الله عنها وأرضاها، وجمع الله بين ريقه وريقها حيث أعطته المسواك قبل أن يموت صلوات الله وسلامه عليه، ومات في بيتها ودُفن في حجرتها رضي الله عنها وأرضاها وعن جميع أمهات المؤمنين.

<<  <  ج: ص:  >  >>